في داخل هذا الكيان البشري الغارق في تناقضاته، حيث تُحاك أعقد المشاعر وتشتبك الأهواء، تنبض الخلايا المرآتية كأنها نافذة على أسرار الروح. ليست هذه الخلايا سوى مرآة مخفية، ترى الآخر وترى فيه ذاتها، تلقي ظلالًا عميقة على طبيعة الإنسان ككائن قادر على فهم المعاناة والفرح، وكأن شيئًا ما يسكن فيه يشده نحو كل ما هو خارج عنه.
ما هي الخلايا المرآتية؟
الخلايا المرآتية ليست مجرد أعصاب خافتة في الدماغ، بل هي مجسات للوجود ذاته، تتخذ من العقل مأوى لها، وتعيد صياغة عوالم الآخرين داخل كياننا. عندما ينظر أحدهم إلى وجهٍ مبتسم أو عيون تفيض حزناً، تتقد هذه الخلايا وكأنها تستدعي تلك الأحاسيس من باطنها، فتُحيي بداخلنا نفس المشاعر المتأججة التي يعيشها من حولنا، وكأننا نشاهد نسخة من أنفسنا في أعينهم.
كيف تعمل الخلايا المرآتية؟
هذه الخلايا، إذ تنشط لدى رؤية الآخرين في أفعالهم أو مشاعرهم، تمثل شكلاً من أشكال الإدراك البدائي العميق؛ إدراك ينأى عن اللغة والكلمات. تعمل الخلايا المرآتية على إعادة صياغة هذا العالم المحيط بنا بلغة تكتنزها أعماقنا، فتُترجم أفعال الآخر إلى تجارب حية داخل أنفسنا، لا تسمح لنا أن نكون محايدين أو غافلين، بل تصرّ أن تجعلنا نُحسّ ونتألم ونتلذذ بما يمر به الآخر.
الخلايا المرآتية وعذابات التقمص العاطفي
كأن هذه الخلايا لم تُخلق إلا لتربطنا بغيرنا في مأساة التقمص العاطفي. فبفضلها، لا يستطيع الإنسان أن يقف على الحياد؛ هي لعنة ونعمة في آن، تسلبك الشعور بالاستقلال وتجبرك أن تنساق مع الآخر في عذابه وسعادته. إنها تُذكرنا بأننا كائنات مقيدة في نسج معقد من المشاعر والألم، وأن معاناة الآخرين هي، بشكل ما، جزء من معاناتنا الشخصية.
الخلايا المرآتية وتفسير الوجود
في عالمٍ يهرع نحو التجرد من العواطف والانغماس في العزلة، تبدو الخلايا المرآتية كنداء خفي؛ إنها توثقنا بروح الآخر، تجبرنا أن نشعر بوجوده في كياننا، وتُصالحنا مع فكرة أننا لسنا وحدنا. إنها القوة التي تمنعنا من الهروب الكامل، تدفعنا لنرى ذواتنا في عيون الآخرين، وتجعل من وجودنا انعكاسًا غير متناهٍ لبعضنا البعض.
يبقى أن نتساءل: هل نحن بفضل هذه الخلايا قادرون على تحرير أرواحنا أم نغرق في صمت آلامنا التي تكمن في انعكاس الآخر؟ الخلايا المرآتية، هي مرآة لا تعكس الصورة فحسب، بل تعكس صراع الإنسان مع ذاته والآخر، وتجعل من الفهم بوابة للرحمة، ومن التعاطف تجربة وجودية تصل بين القلوب والأرواح برباط لا يفهمه سوى من عانق الآخر كأنه ذاته، ومن لمس بشعره في لحظة ما حقيقة أن جميع الأرواح تنبض كواحدة.
اضافةتعليق
التعليقات