عندما نتحدّث عن فكرة الجمال، ينبغي أن نستحضر في أذهاننا أنّ الأمر يختلف عن أيّ تفكير آخر لجهة تحديد المضمون والمعنى والمقصد من مسألة الجمال، ثمّة من يرى الجمال في التناسق بين بعض الأشياء، وآخرون يعتبرون أنّه ما يثير الحواس، سواء كانت بالعين أم بالأذن أو غير ذلك من الأمور.
أمّا المعنى الذي يمكن لنا دينيّاً أن نلاحظه وندركه من الجمال، فهو بتجلّيات الجمال الإلهيّ، الذي يتفرّع منه مجموعة مفاهيم، عناوينها: اللطف الإلهيّ، والرعاية الإلهيّة، والرحمة الإلهيّة، والمحبّة الإلهيّة، والودّ الإلهيّ، والجود الإلهيّ، والرزق الإلهيّ؛ فكلّ هذا من جميل صنع الله فينا.
إنّ السيّدة زينب (عليها السلام) لم تُنكر المجزرة التي ارتُكبت في كربلاء، ولم تنفِ أنّ ثمّة صورة بشعة قد حصلت، لكنّها بيّنت أنّ ما جرى لم يكن من صنع الله، بل من صنع الطغاة الجلاوزة الجشعين الذين مارسوا كلّ أدوار القباحة والعنف المتوحّش. أمّا فيما خصّ الباري عزّ وجلّ، فالله هو الذي سنَّ قاعدة أنّ الحقّ هو أحقّ أن يُتّبع، وأنّ الظلم يجب أن تهدم أركانه؛ وهي قاعدة إلهيّة مميّزة وجميلة.
ومن جهة أخرى، ثمّة تجلّيات أخرى لهذا الجمال، منها مشاهد الثبات؛ لطالما دافع الإمام (عليه السلام) عن كلّ فرد من أصحابه، وعن كلّ طفل وامرأة ورجل، وخصوصاً خلال معركة كربلاء، وفي أكثر من موقف، حيث كان الإمام عليه السلام يتقدّم من أجل الدفاع عن بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكي يأتي بالماء للعطاشى. حتّى في اللّحظة التي دخل فيها غمار الشهادة والموت، حين سمع أن خيام حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يُعتدى عليها، ترك كلّ شيء، ونسي كلّ هذا الواقع المهول من حوله، وتوجّه للدفاع عن حرم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
هذه العلاقة التبادليّة العاطفيّة المبنيّة على الإيمان العميق بين الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه هي حالة من حالات تجلّيات الجمال الإلهيّ من ألطافه سبحانه وتعالى، التي تعبّر عن إرادة الثبات، والوفاء، والبصيرة، والهداية في معرفة صنوف الحقّ. كلّ هذا كان من الله جمالاً.
كيف برز جمال الشهادة في كلام السيّدة زينب عليها السلام؟
وصفت السيّدة زينب (عليها السلام) المشهد العقائديّ الإيمانيّ الروحيّ بمستوى عالٍ، لخّصت لنا فيه كلّ معاني الموت؛ كيف ينبغي أن نتعامل معه، وكيف أنّ الشهادة رزق من عند الله، وكيف أنّها حياة باقية وخالدة، تستمرّ من خلال الصلة بين الشهيد ومن خلفه فالشهيد يتمنّى أن تبقى الأجيال من بعده على هذا المسار، بل ويدعو لهم بالثبات في درب اللقاء مع الله والإخلاص له.
كيف تجدون قوّة جوابها، من حيث الصدور والتوقيت واللّهجة والموقف؟ فهل اجتماع هذه العناصر شكّل السرّ في عمق الموقف وخلوده؟ أم اجتمع السرّ في لسان المتكلّم؟
كانت اللحظة استثنائيّة؛ ففي حين كان ينبغي أن تكون السيدة زينب (عليها السلام) منكسرة، تعتريها حالة من الذهول؛ لأنّها عاشت مشاهد قاسية، وفظيعة في كربلاء، كما أيّ إنسان في موقعها ينبغي أن يكون منكسراً؛ لأنّ الأمور التي حصلت كانت حينها لا تزال قائمة. وكانت قد سبيت أمام الملأ، بعدما كان لا يرى خيالها مخلوق، وتسير في ظلّ أخويها الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، ولكنّ هذه المرأة كانت سيّدة المواقف، وسيّدة المجتمعات والقوم، ابنة السيّدة الزهراء (عليها السلام).
وهي في موقف الأسير، كان المتوقّع منها أجوبة تتناسب مع الظرف، وإذ بالسيّدة زينب (عليها السلام) تتحدّث بما يشبه الزلزال؛ فهي القابضة على الموقف، تمسك بكلّ حبال الموضوع وتحرّكه بالطريقة التي تشاء، ثقة منها بربّها سبحانه وتعالى، وثقة منها أنّ قلبها متعلّق بالملأ الأعلى. روحها مرتبطة بمكمن القوّة، بالله سبحانه وتعالى، فلّله القوّة جميعها، ترتبط بمكمن العزّة، والعزّة لله جميعاً. فهذا الموقف قلب كلّ المشهد وكلّ الأمور رأساً على عقب.
من يعرف من هي السيّدة زينب (عليها السلام) لن يتفاجأ بما تنطق به؛ يكفي أن نقول إنّها حفيدة رسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أفصح من نطق بالضادّ، وهي ابنة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي قال فيه غيرُنا أنّه "ربُّ البيان"، وأمّها السيّدة الزهراء (عليها السلام)، التي جمعت ما بين أفضل من نطق بالضادّ في ميزات أبيها وبين بيان أمير المؤمنين (عليه السلام). عندما كانت تلقي خطبتها الفدكيّة بكى الناس؛ لأنّهم شعروا أنّهم يستمعون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). إنّ مقولة السيّدة زينب (عليها السلام): "ما رأيتُ إلّا جميلاً"، صيغت بلغة خاصّة، ومضمون فريد، بقيمة عالية أعطتها قابليّة الخلود، وهذا ما حصل.
أين تكمن ميزة الخلود في كلام السيّدة زينب عليها السلام؟
نفهم أنّ تُخلّد كلمات عظيمة في الدنيا؛ لأنّها ترتبط بعناصر الزمان والمكان، ولكن ماذا لو خرجنا من المكان والزمان؟ هل يخلّد هذا الكلام إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا؟
إنّ هذه المقولة بالتحديد لها قابليّة أن تكون من موازين تصنيف الناس في الآخرة، عندما يُحشر السابقون السابقون في جانب، وأهل الإيمان في جانب، والذين تخلّفوا في جانب آخر، فوفق أيّ معايير وضوابط سوف يتمّ التصنيف؟ أحد معايير التصنيف هو ما قالته السيّدة زينب (عليها السلام) من منظورها للجمال الإلهيّ. فتجليات هذا الجمال الثبات والإيمان والشهادة، وخلود القضيّة، وغيرها من الأمور لا بدّ أن يكون لها حضور.
هل الجمال الذي وصفته الحوراء زينب (عليها السلام) لا يُرى ولا يتحقّق إلّا بالشهادة؟
من المهم أن يحمل الإنسان إرادة التحفّز للشهادة، بحيث يلبّي النداء إذا جاءه في أيّ لحظة من اللحظات؛ ليلتحق مباشرة، دون تفكير، لنصرة الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف). هذه الحالة يعيشها من يتجلّى في روحهم وعقلهم وإرادتهم الجمال الذي وصفته السيّدة زينب (عليها السلام). بالنسبة إلينا، يصبح الجمال ظاهراً بيّناً عند من استشهد وهو على درب الحقّ، وهو أيضاً عند من لم يُوفّق للشهادة لأسباب أرادها الله. أذكر على سبيل المثال الحادثة التي جرت مع الإمام الخامنئيّ دام ظله في المسجد، حينما دخل في الموت الفعليّ، (محاولة الاغتيال الفاشلة)، ولكن الله أخرجه ممّا كان فيه وأبقاه حيّاً. عندها، سأل الإمام نفسه عندما استفاق: هل يريد منّي الله سبحانه وتعالى أن أؤدّي دوراً ما بعد؟
علينا أن نتحلّى بهذه الروحيّة، المسألة ليست مسألة انتحار بل تأدية واجب وتكليف. روحيّة الشهادة هي التي عُبّر عنها في ادبيّات الثورة الإسلاميّة المباركة بالشهيد الحيّ، فالسيّدة زينب عليها السلام تتحدّث عن هؤلاء الشهداء؛ عن الرجل الشاهد والشهيد، عن المرأة الشاهدة الشهيدة. ثمّة شهداء حسمت لديهم شهادتهم؛ لأنّهم وصلوا، يبقى السؤال بالرجاء لمن يمتلكون هذه الروح، أن يُحسن الله عاقبتنا وعاقبتهم.
هل يُمكن نيل مقام الجمال المتّصل بالكمال والفضيلة عبر التدريب والتأهيل، إن على المستوى الفرديّ أو على المستوى الاجتماعيّ؟ وكيف؟
أعتقد أنّ ثمّة شروطاً يجب أن تتحقّق حتّى يعيش الفرد والمجتمع قيم قادته، ومنهم السيّدة زينب عليها السلام، منها:
أوّلاً: الانغماس في عاشوراء بكلّ أبعادها: على الإنسان أن ينغمس في عاشوراء، ولا يقتصر ذلك على المشهد الشكليّ لعاشوراء، بل علينا أن ندخل إلى عاشوراء الشكل، والمضمون، والروح، والمعنى.
ثانياً: التدبّر في معاني القرآن: علينا أن نتدبّر بعقولنا وقلوبنا في قراءة القرآن حتّى نفهم معانيه. ليس بالضرورة أن يكون الإنسان مفسّراً للقرآن، بل أن يقرأه حتّى يتعلّم منه. إذا ارتبطت حياتنا بالقرآن الكريم، فإنّنا نتعلّم منه الكثير؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يخاطب كلّ فرد يقرؤه، وواجبه الأخلاقيّ أن يصغي إلى كلام الله ويأخذه على محمل الجدّ، وهذا الذي يربّي قلوبنا وأرواحنا ويقوّي إرادتنا.
ثالثاً: الدعاء: لا يمكن أن نتمتّع بروح شفّافة، بحسب نظرة السيّدة زينب عليها السلام: جمال الروح، الجمال الخلّاق، الجمال المبدع، الجمال الذي يؤسّس نهضة ويغيّر المعادلات دون الدعاء، سواء الدعاء الفرديّ، أو الدعاء مع الجماعات؛ لأنّ الدعاء يسمو بقلبك قبل عقلك إلى الله. دع عقلك يفكّر فيما ينبض به قلبك، وأنت تدعو ليتحقّق هدف الدعاء.
رابعاً: البيئة المجاهدة: لا بدّ من أن ينتمي الإنسان إلى بيئة مجاهدة حسينيّة. ومن يرى نماذج أمّهات الشهداء، وإخوتهم وأخواتهم، وزوجاتهم، وأبنائهم، لا يمكن إلّا أن يتأثّر بهذا الدرب.
خامساً: الانخراط العمليّ: لا ينبغي أن تكون حياتي فيها لغو أضعاف مضاعفة عن الالتزامات الجهاديّة، فيصبح العمل الجهاديّ وكأنّه وظيفة تشبه وظيفة الأستاذ الذي يترك القلم أو الطبشورة عندما تنتهي الحصّة ويدقّ الجرس، لا يحصل الانخراط بهذا الشكل.
فالانخراط الجدّي والعمليّ في هذه المسيرة هو أن نجعل كلّ حياتنا بين يدي الله سبحانه وتعالى، وأن تكون جهاداً في سبيل الله؛ فلا نهمل المسجد والقرآن الكريم، ولا نجعل العمل الجهاديّ وكأنّه وظيفتنا. إذا وصلنا إلى هذه المرحلة، فإنّ الإرادة تتربّى بشكلٍ صحيح، كما العقل والوجدان.
كلّ ما ذُكر يندرج في إطار الشروط الذاتيّة، التي يستطيع أيّ إنسان القيام بها، ولكن ثمّة شرط موضوعيّ لا بدّ من أن يتوفّر فينا حتّى نستطيع أن نصل بأنفسنا إلى تلك المرتبة، هذا الشرط هو الولاية؛ إذ يجب أن يكون الاعتقاد بالوليّ عن إيمان وقناعة ووعي وثبات وإرادة.
اضافةتعليق
التعليقات