منذ أن انقلبت الأمة على أعقابها، وخالفت أمر بارئها، ووصية رسولها في استخلاف من اختاره الله لقيادة الأمة وأهل البيت يتعرّضون لصنوف الأذى من اضطهاد وتشريد وسجن وقتل .
يقول الكاتب عبد الحليم الجندي في كتابه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام):
"فليس في تاريخ البشرية، كلها أسرة شُرّدت وجُرّدت، وذاقت العذاب والاسترهاب، مثل أهل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم".
كل هذا الظلم الفادح لا لذنب اقترفوه سوى كونهم عترة النبي (صلى الله عليه وآله) .
ومن أوجه الظلم الذي مورس ضد أهل البيت (عليهم السلام) هو الإبعاد والتهجير عن وطنهم، ومسقط رأسهم؛ فأغلب ائمتنا (عليهم السلام) تعرّضوا لهذا الإجراء التعسّفي من قبل الحكّام الظلمة، بأشكال متعددة وتحت مسمّيات وتبريرات مختلفة .
فقد حُمل الإمام الباقر (عليه السلام) إلى دمشق من قبل الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، واستدعى المنصور العباسي الإمام الصادق (عليه السلام) إلى العراق عدة مرّات، وكذلك فعل هارون اللارشيد مع الإمام الكاظم (عليه السلام) حتى كانت خاتمة حياته الشريفة في أحد سجونه، والمتوكل حمل الإمام الهادي (عليه السلام) قسرا إلى سامراء ليقضي فيها نصف عمره المبارك ويُقتل فيها ويكون مثواه الأخير في تربتها .
وأما مع الإمام الرضا (عليه السلام)، فكان السيناريو مختلفا تماما، وكان الموضوع ينطوي على خطة خبيثة من المأمون الذي كتب رسالة للإمام الرضا (عليه السلام) يدعوه للقدوم إلى خراسان، ليجبره فيما بعد على قبول ولاية العهد، بعد أن رفض الإمام (عليه السلام) عرضه الأول بقبول الخلافة !
وهنا ينطلق سؤال مهم: ما السبب الذي دفع المأمون للتنازل عن الخلافة، وهو الذي خاض الحرب الضارية، وقتل أخاه وآلاف الجنود والقادة، وأوغر قلوب العباسيين بالعداء له من أجل الاستيلاء عليها؟
وهل يعقل أن يسلّمها لخصمه بهذه السهولة؟
لقد كان وراء هذا الإجراء لعبة سياسية خطيرة ضرب المأمون من خلالها ليس فقط عصفورين بحجر واحد، بل سرباً من العصافير !
نعم كان المأمون بمأزق حرج، وكان محاطا بالمشاكل من الجهات كلها فقاده دهاؤه السياسي، وذكاؤه الشيطاني لهذه الخطة التي استطاع من خلالها أن ينسلّ من أزماته السياسية بهدوء وبأدنى الخسائر كما تنسلّ الشعرة من العجين !
لقد كانت الثورات - خصوصا ثورات العلويين- تلهب الأقطار الإسلامية من الجهات كلها، فأراد المأمون تهدئة الأوضاع من خلال تقريب الإمام الرضا (عليه السلام) وجعله وليا لعهده وبذلك يكسب ودّ القاعدة الشعبية العريضة المرتبطة بالإمام عقائديا وعاطفيا.
وكذلك وجود الإمام في السلك السياسي كوليّ للعهد سيضفي الشرعية على حكمه، وسيضمن دعاءه له؛ لأن ولي العهد يدعو للخليفة ثم لنفسه، وهذا ما صرّح به المأمون عندما قال:
"فأردنا أن نجعله وليّ عهدنا ليكون دعاؤه إلينا" .
ومن أهداف المأمون إبعاد الإمام عن شيعته وقواعده الشعبية، ومحاصرته؛ فحمله إلى تلك الديار البعيدة النائية، ووضعه تحت المراقبة وعيّن عليه حاجبا ينقل إليه أخباره، ويمنع الناس من الوصول إليه .
ومع علم الإمام الرضا (عليه السلام) بخطة المأمون ودوافعه الشيطانية إلا إنه اضطر للقبول تحت التهديد بالقتل حيث يقول (عليه السلام): "قد علم الله كراهتي لذلك، فلما خُيّرتُ بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل" .
وإذا كان المأمون ذكيا فالإمام (عليه السلام) أشد منه ذكاء وأهدى سبيلا؛ فقد أفسد على المأمون خطته، وطوّقها بشروطه الذي اشترطها للقبول: "وأنا أقبل ذلك على إني لا أولّي أحدا ولا أعزل أحدا ولا أنقض رسما ولا سنة وأكون في الأمر من بعيد مشيرا".
فقبل المأمون شرط الإمام وتمّت البيعة في شهر رمضان سنة ٢٠١ هجرية .
وبذلك الشرط سحب الإمام (عليه السلام) البساط من تحت قدمي المأمون، وفوّت عليه الفرصة لإستغلاله أو تشويه سمعته، بل على العكس استغل الإمام وضعه الجديد، واستثمر الظرف المناسب لإقامة الدين، ونشر أحاديث آبائه الطاهرين، وعلومهم الإلهية، حيث أُثنيت له الوسادة في مجالس العلم والمناظرة التي كانت تُعقد له؛ فساعد المأمون - من حيث يعلم أو لا يعلم- في بيان فضل العترة الطاهرة، ومنهجهم القويم، ودورهم الريادي في الأمة؛ فسطعت بذلك أنوارهم في بلاطه ورغم أنفه، وتغنّت الشعراء بحبهم وفضائلهم، ومقاماتهم الشامخة التي طُمست وكادت أن تندثر بفعل الإعلام المعادي؛ فكان من بركات التخطيط الرضوي المضادّ أن وصلتنا تائية دعبل الخزاعي الرائعة التي أنشدها في حضرة الإمام الرضا (عليه السلام) والتي تستعرض تأريخ أهل البيت ومظالمهم ومناقبهم، ومن جميل ما جاء فيها قوله:
هُمُ أَهْلُ مِيرَاثِ النبيِّ إذا اعَتزُوا
وهم خيرُ ساداتٍ وخيرُ حماةٍ
إذا لم نناج الله في صلواتنا بأسمائهم لم يقـبل الصلوات
فسلام على من لا تُقبل الصلاة إلا بالصلاة عليهم .
اضافةتعليق
التعليقات