ينجح الإعلان حين يتعطل الحس النقدي وتثار الرغبات والتخيلات والأحلام. فالإعلان هو بالأساس صناعة الموافقة على أن ذلك يقدم من خلال مبررات تبدو منطقية عبر شعارات من مثل: الإعلان هو حق الاختيار. كيف يمكن أن تختار إذا لم تعرف ماذا يوجد على الساحة؟ عليك أنت ستستهلك أكبر قدر من الإعلانات كي تمارس حقك الكامل في الاختيار من بين البدائل المتاحة.
على أن ما يتم السكوت عنه هو طبيعة هذا الاختيار ذاتها. إنها ليست اختيار بين انجاز أو أداء أو موقف بل هي اختيار للاستهلاك بين عدة سلع.
وهنا بيت القصيد الإعلان هو إعلان استهلاكي أساساً. إنه إبن اقتصاد السوق. ندر أن وجـدنـا إعـلانـات عـن الأداء أو الإنتاج. وإذا أغرق المشهد بالإعلانات الاستهلاكية فإننا سنكون أمام صناعة ثقافة الإستهلاك ليس إلا الإستهلاك يصبح هو القيمة، وهو المرجع وهو الموجه ويصرف النظر عن كيفياته. ولكن ماذا بخصوص من لا يملكون القدرة على الاستهلاك؟ كيف سيمارسون حقهم في الاختيار إذا؟ وما الذي يجري حين تتعذر ممارسة هذا الحق؟ كلها أسئلة تظل مطموسة. ليس هناك من حالة تعبر عن ثقافة السوق بقدر الإعلانات التي تدعوك بالقطع إلى متعة الاستهلاك الآني. إننا من جديد بصدد الراهنية والإثارة والمتعة. على الأقل إذا استعرضنا واقع الإعلان التجاري الذي يغمر الثقافة المرئية.
لقد سيطر الإعلام المرئي على الثقافة، وسيطر الإعلان على الإعلام. فالشركات المعلنة هي التي تحدد كما رأينا نوعية المادة المرئية، بما يتمشى مع ترويج سلعها، سواء في الأخبار، أو البرامج الأخرى. ويصل الأمر ببعض القنوات التجارية أن يتحول البث التلفزيوني فيها إلى مجرد غطاء أو إطار للإعلانات. يملأ الفراغ ببرامج متنوعة: بعضها مثير والكثير منها رخيص، والنادر منها مميز، من أجل الإعلان وما يدره من ربح والمميز، وخصر يقدم لجذب الجمهور واصطياده بالإعلانات التي تتخلله والتي تبلغ أسعارها أرقاماً مذهلة.
وعلى كل حال هي مبالغ مأخوذة من المستهلك ذاته فإما أن تضاف على ثمن السلعة، أو تحسم من حساب الضرائب المتوجبة للمال العام، أو الاثنين معاً! شركات الإعلان تعقد الندوات لتنشيط السوق الإعلانية.
والملفت كيف يحدث خلط مقصود أو غير مقصود ما بين تعابير الإعلام والإعلان في أدبيات هذه الندوات وشعاراتها مما تحفل به أخبار الإعلان عنها السوق الإعلامي يستبدل بالسوق الإعلاني من خلال إنزلاق لغوي ملفت للنظر أو ليست هذه أيضاً من خدع الترابط: الإعلام = الإعلان، أو العكس؟ وإذا كان الأمر كذلك ألسنا في بؤرة اقتصاد. السوق وثقافته؟ إغراق الأجيال الطالعة بالإعلانات أصبحت تشغل بال المربين والمفكرين، خصوصاً في الغرب.
يقول بعضهم أن الطفل الأمريكي حين يصل إلى نهاية المرحلة الثانوية يكون قد تعرض لما يقرب من 500 ألف إعلان، تكدس كإثارات دماغية في ذهنه بدون تحليل أو نقد. وهو تكدس يؤدي إلى التشبيك العصبي الذي يجعل المثيرات الجديدة تمر من خلاله ومبدأ الصدارة الذي ينشط ليسبغ دلالة خاصة على حاجة معينة وإشباعها موضوع الإشباع يصبح هو السلعة التي أغرق الذهن بالإعلان عنها. أطفال الغرب هم آخر سوق إعلاني ذي شأن، يبلغ في أمريكا وحدها ما يزيد عن 14 مليار دولار سنوياً.
إغراق الأطفال بالإعلانات عن الحلوى والأغذية غير الصحية خلال ساعات البث المخصصة لهم، بدأ يطرح قضايا صحية جدية على خبراء الصحة العامة.
أبطال الأطفال المحببين يُستخدمون كوسائط إعلانية للترويج عن لباس، أو حلوى، أو لعبة كيف يمكن للطفل أن يقاوم استهلاك هذه السلعة؟ كيف يمكن ألا يكون كالآخرين؟ ذلك ما أصبح معروفاً ويعاني منه الأهل إزاء إطلاق موضات وملابس وأدوات البطل الفلاني المحبب إلى الطفل. وهو بطل قد تمت صناعته بالأصل ولا راحة للأهل إلا بتلبية رغبات الطفل بالطبع!.
فليس عجيباً إذاً أن يكون الطفل هو آخر سوق إعلانية. ليست المشكلة في الإعلان بحد ذاته، بل في توجهاته والإيديولوجيا الاستهلاكية التي يروجها ويرسخها.
إنها في بناء تصور عن العالم ونمط من الوجود تقوم مرجعيته الأساسية وأحكام قيمته على الاستهلاك على اختلاف ألوانه. وبالطبع الشاشة التلفزيونية هي الساحة والأداة الأهم لهذا التنميط الكوني.
اضافةتعليق
التعليقات