عندما تناول سلطان العارفين محيي الدين بن عربي، في فتوحاته المكية مسألة بداية الوجود الكوني وكيف انبثق هذا الوجود عن واجب الوجود، قال:
"كان الله ولا شيء معه... فلما أراد وجود العالم... انفعل عن تلك الإرادة المقدسة... حقيقة تسمى الهباء... وهذا هو أول موجود في العالم.
ثم إنه سبحانه تجلى بنوره إلى ذلك الهباء... فقبل منه تعالى كل شيء في ذلك الهباء على حسب قوته واستعداده، فلم يكن أقرب إليه قبولاً في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – المسماة بالعقل، فكان سيد العالم بأسره وأول ظاهر في الوجود، فكان وجوده من ذلك النور الإلهي ومن الهباء ومن الحقيقة الكلية وفي الهباء وجد عينه وعين العالم من تجليه وأقرب الناس إليه علي بن أبي طالب وأسرار الأنبياء أجمعين".
وإذا كان ابن عربي قد قرن ذكر محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – بذكر أقرب موجود إليه، أي الإمام علي عليه السلام وبذكر الأسرار النبوية جميعها، فإن الإمام علياً عليه السلام هو في حقيقة الأمر سر الأنبياء جميعاً.
ويتجلى هذا السر مع الإمام علي عليه السلام منذ لحظة ظهوره وليداً محمولاً بين يدي فاطمة بنت أسد وهي خارجة من الكعبة المشرفة، من بيت الله الذي هو أول بيت وضع للناس مثابة وأمناً.
ولا ريب في أن لهذه الولادة المباركة مكانة هامة في مؤلفات ودواوين رجال الفكر من المسيحيين المعاصرين، حيث رصدوا هذه الحادثة الفريدة وأدركوا أبعادها الروحية العميقة وما ستعنيه في المستقبل ولذلك فقد نظروا إليها نظرة الإعجاب والإكبار.
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله الحكيم: "إنّ أوّلَ بيتٍ وُضعَ للنّاس للذي ببكَّةَ مباركاً"، فوصف سبحانه وتعالى الكعبة بالمكان المبارك لأنه أول بيت وضع للناس من أجل العبادة وممارسة الطقوس الروحية التعبدية.
وقد جاء أيضاً في كتاب الكافي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية المباركة قوله عليه السلام: "من أمّ هذا البيت وهو يعلم أنه البيت الذي أمره الله عز وجل به وعرفنا أهل البيت حق معرفتنا كان آمناً في الدنيا والآخرة".
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد وصف البيت - الكعبة – بأنه (مبارك) في الآية التي ذكرناها سابقاً، فإننا نرى أنه جلّ وعلا يؤكد على تلك الحقيقة بقوله في آية أخرى: "وإذْ جعلنا البيتَ مَثابةً للناس وأمناً"، فلم يكتفِ بوصفه بـ(المبارك)، بل وصفه أيضاً بأنه (مثابة) و(أمن) للناس.
وبطبيعة الحال، فقد اقترن ذكر الكعبة، أو البيت العتيق بذكر سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام ولكن مع تقادم السنين ومع التحولات العقائدية الناتجة عن جملة من التغيرات التي حدثت في شبه الجزيرة العربية فقد نمت وترعرعت الطقوس الوثنية حول الكعبة ذاتها.
وعلى الرغم من مرور تلك المنطقة بمرحلة العبادات والطقوس الوثنية، إلا أن العقل البشري كان دائماً وأبداً يبحث عن نور التوحيد وراء كثرة الآلهة، وعن الوحدة الإلهية وراء التعددية التي كانت سائدة في أيام الجاهلية.
بل إننا نستطيع أن نلحظ بوضوح تام من خلال قراءتنا للتراث الروحي للأمم الماضية أن الديانات غير السماوية، وإن تعددت آلهتها، فإنها كانت تنصب دائماً إلهاً سيداً يدير شؤون مجمع الآلهة، وهي بدورها تدير شؤون الخلق، وهذا يعني أن تلك الديانات غير السماوية كانت تميل في جوهرها إلى عملية التوحيد أيضاً.
وعلى كل حال، فإن وجود الأصنام بكثرة حول الكعبة، في الماضي، لا يعني إلغاء قداستها، ولا يعني ذلك أيضاً أن الوثنيين آنذاك كانوا في حالة جهل روحي تام بالديانات السماوية التوحيدية السابقة. ولكن ما يهمنا الآن هو اتفاق الوثنين والحنفاء ومن ثم المسلمين على حقيقة قداسة ذلك المكان وحرمته وارتباطه بعالم السماء من خلال إدراكهم أنه بيت الله الموضوع للعبادة وللارتقاء الروحي.
ولم يخطر في بال أحد أبداً أن يتحول ذلك البيت الإلهي الموضوع أساساً للعبادة إلى مهد للولادة!!
ورب سائل يتسائل قائلاً:
وما الحكمة في أن يتحول بيت العبادة إلى مكان للولادة؟
وهل هناك أحد قد ولد قبل علي عليه السلام أو بعده في ذلك البيت العظيم؟
وما الرؤية أو التحليل الديني الفلسفي لوقوع تلك الحادثة الفريدة؟
وقبل الإجابة على هذه التساؤلات الهامة، نقول إنه لا خلاف بين الرواة على أن مكان ولادة الإمام علي عليه السلام كان داخل البيت الحرام، أي داخل الكعبة ذاتها، وقد اتفقت الروايات السنية والشيعية على هذه الحقيقة.
ومن هنا بدأ الطرفان في إدراك حقيقة أن الإمام علياً عليه السلام ذو شخصية استثنائية تتمتع بهالةٍ من القداسة المتناسبة مع حجمها وعظمتها، وما ولادته المباركة داخل الكعبة إلا فاتحة أنوار تلك الهالة القدسية التي ولدت معه داخل الكعبة الشريفة.
وكما تناول المسلمون تلك الصفحة البيضاء من كتاب حياة الإمام علي عليه السلام الناصع البياض، فإن الأدباء والمفكرين المسيحيين قد تناولوا تلك الصفحة أيضاً وقرؤوها وحلّلوها ثم أعادوا صياغتها في مؤلفاتهم وأبحاثهم بأسلوب أدبي رفيع يفيض بالإعجاب والتقدير.
فعندما أورد الأديب (روكس بن زايد العزيزي)، وهو أحد الأدباء المسيحيين المعاصرين، قصة ولادة الإمام علي عليه السلام في الكعبة المشرفة، علّق على تلك الحادثة الجليلة بقوله في كتابه (علي أسد الإسلام وقديسه): "كانت ولادته في البيت الحرام إيذاناً بأن الأصنام قد هزمت إلى الأبد".
ويرى المفكر والأديب المسيحي (نصري سلهب) صاحب الأبحاث المطولة عن الإسلام والمسيحية، وصاحب كتاب (في خطى علي)، أن الإمام علياً عليه السلام قد ولد مسلماً قبل الإسلام، شأنه في ذلك شأن الرسل والأنبياء الذين كانوا مسلمين بالفطرة السليمة قبل ولادة الرسالة الإسلامية بشكلها العلني على يدي الرسول المصطفى – صلى الله عليه و آله وسلم - .
ويرى الأستاذ (سلهب) أن هناك دلالات وإشارات لا تخفى على ذوي الألباب بشأن ولادته في الكعبة، فيقول: "ولدته أمه في الكعبة، تلك التي جعلها الله قبلة المصلين، الركع، السجود، المستسلمين لمشيئة الله، المسلمين له نفوسهم والمصائر". فولادته المباركة في بيت الله، في الكعبة التي يتجه المسلمون إليها في صلاتهم، في ركوعهم وسجودهم، مع الاستسلام الكامل لمشيئة الله وإرادته، لهي إشارة عظيمة إلى أن الإيمان الكامل الذي ظهر متجسداً بعلي عليه السلام منذ لحظة ولادته في الكعبة سيستمر في الانطلاق والاتساع إلى جانب صاحب الرسالة – صلى الله عليه و آله وسلم – الذي بعث للناس كافة هدى ونوراً ورحمة.
اضافةتعليق
التعليقات
الكويت2017-04-10