يولد الأطفال جميعاً عراة، لكن بعد ذلك بقليل يرتدي بعضهم ثياباً باهظة الثمن من أفضل المحلات، في حين يرتدي معظمهم ثياباً مهترئة، وحالما يتقدم العمر بهم قليلاً، ينزعج بعضهم كلما أحضر إليهم الأقارب مزيداً من الثياب، لأنهم يفضلون هدايا أخرى من قبيل أحدث أجهزة (iPhone)، في حين يحلم آخرون بيوم يذهبون فيه إلى المدرسة بأحذية غير مثقوبة، هذا هو نوع اللامساواة الذي يحدد عالمنا منذ يفاعتنا حتى تعايشنا معه بكل سلاسة فما عاد يفرق عندنا إن كنا من الجزء الأول كم سنهدر من المال وإن كنا من الجزء الثاني كم يوما سننام بلا طعام، ووَلد هذا الاعتياد سؤالاً يجتاح عقولنا كل ليلة، لماذا كل هذا القدر من اللامساوة ؟
ولأن الاقتصاد هو بمثابة اللبنة الأساسية في عالمنا الحالي للوصول الى المساواة التي تجعل من العالم شيء أشبه بيوتوبيا فلا يقف طفل على الرصيف ينتظر الباص المدرسي واخر ينظر اليه من ركن الشارع وتلمع عيناه ماذا لو كان مكانه، واقصى امانيه ان يكون له قرطاس وقلم وحذاء بلا ثقوب، قد قام البشر بالوثبة الأولى وهي استخدام حبالهم الصوتية للتكلم وتجاوز الصرخات غير المفهومة، وبعد ذلك قاموا بالوثبة الثانية: هي زراعة الأرض، إن قدرتنا على التكلم وإنتاج الطعام بدلاً من مجرد الصراخ واستهلاك ما وفرته البيئة أدت إلى ما ندعوه الآن الاقتصاد، حتى نجح البشر في تجنب الاعتماد على سخاء الطبيعة: تعلموا، أن يجعلوها تنتج سلعاً لاستعمالهم الشخصي، والسبب الوحيد لتعلم البشر الزراعة أنهم كانوا يتضورون جوعاً، وأكرهتهم الحاجة الماسة على اعتماد طرائق لزراعة الأرض، حتى تغير المجتمع البشري جذرياً مع تطور وسائل الانتاج، وخلق للمرة الأولى العنصر الأساسي للاقتصاد الحقيقي: الفائض.
ما هو الفائض؟
في شرح بسيط ضمن كتاب "الاقتصاد كما اشرحه لإبنتي" هو الجزء الزائد الذي يفسح المجال للتراكم والاستعمال المستقبلي، ما يصبح واضحا أيضا هو صعوبة ولادة دولة من دون فائض، بما أن الدولة تتطلب ادارة الشؤون العامة، وحكاما يطلبون في السراء والضراء مستوى معيشيا مرتفعا، على سبيل المثال في العراق حينما كان هناك لقاء مع احد النائبات من الذين ختمت عليهم سمات الجشع حيث ذكرت ان راتب بقيمة خمسة عشر مليون دينار عراقي لا يكفيها حتى منتصف الشهر، بينما راتب المواطن العادي مبلغ قليل جدا لا يصل الى ربع الربع من دخلها وهي بهذا الاجر لا تلبي احتياجاتها، ثم انه لن يكون ممكناً تصور أي مما ذكر دون وجود فائض ضخم للإبقاء على هؤلاء الأشخاص مما انشأ نوع من اللامساواة، وهذا النوع تطلب مراكمة الفائض، وأنتج عنه الأوليغاركية، أي يمكن لأصحاب الامتيازات الحصول على الفوائض ، و يستطيعون استخدامها للاستحواذ على حصة أكبر فيهيمنون على الموجود دون التفكير بمن هم تحت رعايتهم ومسؤوليتهم خلال مدة خدمتهم، بينما هذا على عكس ما نص عليه الاسلام وماكان من اسلوب اقتصادي وديني سار عليه القادة الحق الذين افنوا انفسهم في سبيل ان يعيلوا من هم تحت مسؤوليتهم، وفي قول للامام علي(عليه السلام): (والله أان أبيت على حسكِ السعدانِ مسهداً أو أجر في الأغلال مصفدا أحب إِلى من أن أَلقَى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إِلى البلى قفولها ويطول في الثرى حلولها، والله لو أعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته).
أيديولوجيا ذاتية الاستدامة
تعمل الأيديولوجيا على شرعنة التوزيع غير المتساوي للفائض في أعين الجميع: إلى حد خلق شبكة من المعتقدات، أنه ما من شيء تسهل إعادة إنتاجه أكثر من إيمان من يملكون بأنهم يستحقون ما نالوه، وكما تسير عليه وتيرة الوقت من تناقض منطقي فادح، لم يكد يحظى بملاحظة أن بعض الأطفال يبكون من الجوع إلى أن يغلبهم النوم، وعندما تقع أبصارنا عليهم، سرعان ما نتعاطف ونعرب عن غضبنا، لكننا لا نسمح لأنفسنا أن نفكر في أن حرمانهم قد يكون نتاج العملية عينها التي أفضت إلى اكتفائنا، إنها آلية نفسية تقنع من يملكون ومن يتولون السلطة، بأن من حقهم ومن المناسب والضروري لهم أن يمتلكوا أكثر، في حين أن ما يمتلكه غيرهم أقل بكثير، فمن السهولة يمكن اقناع أنفسنا بأنها سنة الحياة ولاسيما حين تحابي مصالحنا، لكن لو اننا كنا قاسين بالقدر الكافي على نزوعنا إلى قبول أوجه اللامساواة حين ينتابنا شعور بأننا على وشك الاستسلام لفكرة أن اللامساواة أمر يتعذر تجنبه.
من خلال تذكرنا كيف يبدأ كل ذلك: بأطفال يولدون عراة في مجتمع يفصل بين أولئك الذين سيلبسهم ثياباً باهظة الثمن والآخرين الذين يحكم عليهم بالجوع والاستغلال والبؤس، ان نحافظ على غضبنا، بعقلانية وروية، ليتسنى لنا عندما يحين الوقت توظيفه في ما يجب فعله لجعل عالمنا منطقياً وطبيعياً وعادلاً حقاً، فنكون ذو مسؤولية عن كل ما هو تحت رعايتنا، وكما ذكر الرسول (صلى الله عليه وآله): (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته..).
اضافةتعليق
التعليقات