الصمت، غلافٌ ذو خاصية كاتمة، مُخادعة، يُخيّل للرائي أن المتخلق به ذو طمأنينةٍ وهدوء، وأنه من فرط رضاه وسعادته، لا يجدُ أمراً يتذمر منه ولا عائقاً في حياته يشكوه ويهذرُ بشأنه.
يُظلمُ الصامتون في معظم الأوقات، يُعاملون كأنهم مخلوقات حجريّة صلدة، أو أن خللاً نفسياً قد ألّم بهم، فكيف يستطيعون مواصلة الصمت بهذا الشكل في حين أن ربع ما يحتملونه لو أصاب شخصاً تقليدياً آخر لبقيّ يتذمر ويشكو منه أياماً متواصلة! ما هي وصفتهم السرية والسحرية للبقاء بهذا السلام الذي يبدو أبدياً؟!.
لله درُّ الصامتين، الذين يواصلون إطباق شفاههم، كتم الكلمات في حناجرهم المُتخدرة من قِلة تحريك أوتارها الصوتية، المستمعون بإنصات لتدفق الكلام من أفواه الآخرين، اللذين يمنحون بسماتٍ آمنة وتطميناتٍ صادرة من إنكسارٍ يتلوه إنكسار. لطالما قيل بأن الصمت عما في داخلك يُراكم طاقة الأذى فيك، يُسممُك روحاً وبدناً، يُحيلك إلى مخلوقٍ تعِس.. لكنك لا تختاره! لا تتلذذ بهذا الإطباق المُحكم على كل خلاياك الحية، إنه أمرٌ مفروضٌ عليك. تتوقف في منتصف بعض الطرق، لا تجدُ حلاً آخر سوى تغيير المسار، لا الأمام يُغري بالتقدم، ولا الخلف يدعو للإياب، تحفرُ درباً فرعياً، تلجِهُ ولا تدري، أفيه تجدُ نفسك أم تزدادُ تيهاً.
المُتعبون، يتكالبُ عليهم الحُزن، يتصدّعُ جوفهم، يتشققون كتُربةٍ قاحلة يُذويها الظمأ. ينقضُ عليهم البؤس ناهشاً أرواحهم الهشة، فيُردوّن قتلى لا يواري نزف جراحهم أحد، تتشكلُ من دماؤهم أنهاراً، تتفرعُ من آلامهم جداولاً، فتنمو على ضفافهم أشجارٌ يابسة، أغصانٌ جافة لا تُظللُ أحداً ولا تُثمرُ ما يُسدُ به الرمق، نجومٌ زرقاء في سوادهم اللامُتناهي، لا ضوء ينعكس منهم، يتجمّعُ نورهم بين أضلاعهم، يُربون فيهم الأمل، يحمون ما تبقى منهم، لا يظهرونه للعالم كيلا يحرقه كما أحرقهم من قبل.
الصمت هو وسيلة اللاتعبير الوحيدة المتاحة لهؤلاء، يتامى الحيلة، إنه سرّهم السماوي، يعرفهم الله أكثر من غيرهم، يعلم سرهم لأن لا علانية لديهم، هم أصدقاؤه المقربون، أحبابه المنهكون، يحيطهم برأفةٍ معززة، لا اسلحة لديهم، لا متاع في هذه الدنيا، يبدأونها وينتهون منها وهم في حالةٍ من الترقب والصبر، يستعينون بالصبر والصلاة، يخشعون في مناجاةٍ قلبية لا يسمع همسها أحد، تتصعد الملائكُ نحو السماوات العُلا، مُحملين بحقائب بلورية، تضمُ حديثهم الروحيّ الصامت.
اضافةتعليق
التعليقات