تراكم الجهل واعتلى جداره قدمت أخباره وتأخرت أفكاره، وظهرت فئة تدعي الإيمان يهيئون الدين أفيونا للفقراء فيرسلون اشارات منه فيها خليط من بعضه وهوى بعضهم يسير كالسم فيه ليرتلوا مانتج من محلول اجتبوه عنوة لرسم طريقا للجهلاء، حتى يصبح كتاباً مرسوما خطته عقول المتعالين فيرم الواحد منهم في دوامة شك تلازمه على مدى أجيال.
حين لايعي الإنسان حقوقه وحدوده متى يتكلم ويصرخ ومتى يدافع عن نفسه مهما كان المصاب فسيقع في قعر الجهل، ولن يكون هناك أرذل من الجهل حين تهون النفس البشرية أو الكرامة في سبيل فكرة غبية اخترعها أبله ما في هذه الكرة الأرضية وسار على خطاها أجيال لتكون طوق سم يألفه الجاهل وقليل ممن لديه الحرية رماه في منفاه.
تلك الأفكار المسمومة التي لاتمت لدين أو انسانية هي مجرد كتلة إرث فارغة خاوية الأركان يصدر صداها من اللاشيء، بينما نبتعد كل البعد عن مصادر القوة والقدوة التي كانت ولازالت سماء بمصابيح لا تنطفئ رمينا عليها ستارا قاتما فما كان يحجب نورها حتى غضضنا البصر وابتعدنا عن انسانيتنا وضللنا السبيل، لندرك أن أحسن ماقالته العجائز (خف ممن لا يخاف الله).
كل منا هو صنع الخالق على هيئة جزيئات تسير على الأرض يمتلكون صفات تميزهم عن غيرهم ويتفردوا بها لخصوصيتها بهم دون غيرهم، فمنهم من خصهم بزين الحسن فساروا كالنبات الأخضر الذي يضفي جمالا للطبيعة، ومنهم من خصهم وزادهم بالخلق فوصفهم بالإنبات الحسن في قوله تعالى: (وانبتها نباتا حسنا)، فكيف لو اجتمعت جم الصفات من خُلق وخلقة في شخص واحد، كتلك الخطوات التي كان يشع منها ملكوت الآخرة لينير الديار التي حطت أقدامهم عليها، وبلسان حورية أنسية كانت الكلمات تجاور بعضها لتقول: (ولئن جرت عليَّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى! ألا فالعجب كل العجب، لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء)، تلك الشخصية الفذة المتكاملة التي أكدت أن المرأة وإن لم يقدر لها أن تملك القوة الجسدية، إلا إنها قادرة على أن تشارك الرجل بصلابتها وثباتها ومواقفها في صناعة النصر، أو تصنعه وحدها حين تقتضي التحديات.
شخصية ملهمة تزداد حضوراً كلما مر الزمن، ويزداد الارتباط بها بصورة أشد وأقوى، حتى أصبحت قدوة للمرأة، أمر قد يراه البعض طبيعيا ولكن أن تكون السيدة زينب قدوة للنساء والرجال على حد سواء فهنا تكمن عظمة هذه الشخصية والمفارقة فيها، فقد مَن الله علينا بشخصية كزينب بنت علي (عليه السلام)، عصمت نفسها وإن لم تعد من المعصومين لتكون نموذجاً يقتدي بها الرجال قبل النساء في كل زمن فهي تختزن إمكانية أن تكون قدوة لكل الأحرار والثائرين في العالم.
ومثال السيدة زينب كقدوةٍ للرجال والنساء، ذكره القرآن الكريم عندما أخبرنا أن الله ضرب مثلاً للذين آمنوا امرأتين، ولم يقل إن الله ضرب مثلاً "للمؤمنات"، رغم أن حديثه كان عن امرأتين: الأولى هي امرأة فرعون التي تركت كل مجد فرعون وآمنت بالنبي موسى وتحملت لأجل ذلك التعذيب، والثانية هي مريم بنت عمران، التي كانت أنموذجاً في العفة والطهارة والثبات، وفي صبرها على حملها الذي أراده الله أن يكون إعجازا.
والله يريد بذلك أن يبين الموقع الذي يمكن للمرأة أن تبلغه، ويظهر جانبا من التكريم الذي حظيت به المرأة، وهذا يفترض أن يكون مدعاة فخر واعتزاز بديننا الذي كرّم المرأة، ودعا الرجل إلى أن يقتدي بما لديها من ميزات وإنجازات فاعلة، وإذا كان البعض يتهم الإسلام بالانتقاص من قدر المرأة وهضم حقوقها وجعلها على هامش الرجل، فإن ذلك يعود إلى عدم تفريقه بين العرف الاجتماعي والتشريع الإسلامي، وهذا هو حال الإساءات التي تلحق بالدين، فيما المسؤول هو الفهم الضيق والمتأثر بأعراف المجتمع وتقاليده وتشتيت الفكر بين اتباع العالم والجاهل.
وعلى الرغم من أن السيدة زينب دخلت إلى النفوس من باب العاطفة والمأساة، لكنها من هناك عرجت إلى العقول والوجدان فصار نداء "يا زينب" أبعد من مجرد الانتماء والهوية، فرغم أن قل ما نقله التاريخ لنا عن حياتها الشخصية قبل كربلاء وبعدها، إلا أن تحليل مواقفها في ثورة كربلاء كفيل بأن يضيء بشدة على عظيمة من ذلك البيت الرسالي، هادية أصبحت أسوة النساء ففي الوقت الذي كانت فيه جبلاً راسخاً من الإيمان عملت على إرواء الظامئين بينبوع عاطفتها وصبرها، ويمكن لمثل هذا الحضن الرؤوف أن يعمل على تربية الإنسان، فإن جوهر ذات الإنسان إذا أمكنه بلوغ التسامي تصاغر أمامه كل شيء، وأخذ بزمام قدرته على توجيه الأمور وإدارة دفتها.
والمرأة لا تحتاج إلى منزلة تشريفية مصطنعة لترقى إلى مستوى شأنها ووقارها وسكينتها الروحية فقد أودعها الله طبيعة لطيفة، وحباها جمالا ودفئا يخولها توجيه ذاتها والأجواء المحيطة نحو الرقي، وتسلق المقامات العلمية والعملية، فسلاما على الحوراء مابقي الدهر وما أشرقت شمس وماطلع البدر.
اضافةتعليق
التعليقات