أمالت رأسها برزانة يمنةً ويسرة، أزفرت بشدة تنفثُ حرارة ألم قلبها، رقرقت في عينيها دمعة تأبى السقوط، عانقتْ والدتها بعد أنْ فتحت لها باب الدار مرحبةً بها..
قالت غاضبة:- هو الحل الوحيد المكابرة تضني الروح، كما أخبرتك أمي مسبقاً؛ يعيد الكرة ويخرج للمظاهرات ويأبى البحث عن عمل حتى إنه لا يتمكن توفير حليب لطفلتنا.. أمي إضافة إلى العوز سيقحمنا في مشاكل جمة بسبب مشاركته بمظاهرات احتجاجية يحلم هو وبقية الخريجين أن ينالوا عطف الحكومة بالتعيين! وانتشالهم من البطالة التي ارهقتهم وعوائلهم. وكما تعلمين أنّ نَفس الدولة طويل. أصبح عصبياً حادَ المزاج وعندما يهدأ يقول أنه يحبني أنا وابنته، ولكن أظن أنني اكتفيت، الهجر ورقة قديمة تتخذها الزوجة وسيلة للتعبير عن عجزها، ولكن لم أجد حلاً آخر.
أطرقت أمّها رأسها أجابت بابتسامة حائرة:- ابنتي أظن قد نصحتك مسبقاً أن الزواج مسؤولية كبيرة وقاعدة نجاحهُ هي الصبر، ونحن نعلم أن حاله من مئات الشباب الخريجين الذين يتوقون إلى تعيينهم وحصاد ثمرة تعبهم. فلابد من الصبر ياابنتي.
قصّت عليها حديث الكساء الذي اعتادت قراءته حينما تثقلها الحياة بهمومها، ذلك الحديث الذي فيه سر عظيم لتغير حال المرء المهموم ببركة حديثه. وتصور لها كيف التحفت عائلة أهل البيت برداء النبي "صلى الله عليه وآله" تعبيرا عن تماسك العائلة وترابطها؛ فهي كالجسد الواحد. فكل دروس أهل البيت هي منار للمؤمنين... تمتمت بصوت خفيضٍ غير مفهوم، رمتْ حقيبتها التي عبأتها من خزانة غرفتها.. ملابس لها وللصغيرة تحسباً للبقاء في بيت الأهل.. لفترة طويلة.
وما إن حلَّ المساء دخلت مكتبة أبيها تبحث عن كتاب توارى خلف طيّ صفحاته همومها، شعاع من الأماني مازال وهاجاً في عقلها وهي تحلم بحياة زوجية هانئة بعيدة عن ذلة الحاجة وطلب العون والخلاص من الديون التي أرهقتها، سنين من الجهد الدراسي لم تحظَ بجني ثماره، ثم زواج على شفا حفرة من الإنهيار، مشاعر سيغلفها الحرمان وسرعان ماتضمحل وتصبح حياة صورية يشوبها الملل، حياة زوجية يغلفها الروتين اليومي.
بعد أن نامت طفلتها بحضن الجدّة.. رأتْ أنها تحتاج إلى بعض الخلوة مع النفس، تقدمت صوب مكتبة والدها بخطى ثقيلة، جلست خلف مكتبه، تزاحمت الأفكار وتراجعت الحلول في رأسها، فتحت كتاب كان قد سبقها الأب بقراءته، ووضع قصاصة كإشارة تتبع للصفحة التي أكمل قراءتها في كتاب عن حياة فاطمة الزهراء "عليها السلام"، سرقتها أحداث تلك الصفحات التي سردت أحداث سيرة الزهراء عليها السلام مع زوجها علي "أمير المؤمنين" وعن صبرها وتحملها مشقة العمل في المنزل ومداراة الأولاد وقبولها بشظف العيش من أجل ارضاء الله ورسوله ثم إمام زمانها وهي بنت رسول الله.
احتضنتها الأحلام ثم نامت بين برد المساء ودفء المنى. ورحلت إلى عالم يفوح عطر زمانه بعطر قاطنيه، وأن الأرض غدت مشرقة لجمال ساكنيها، وهي تلوذ خلف جدار طيني معلقة عليها سجادة صوف بألوان زاهية، عن يمينها اناء خزفي لحفظ الماء (الحب)، أثاث بسيط يليق بحب الله الكبير لأهل ذالك البيت، نخلة تحمل عثوق صفراء، وكأنها من ثمار الجنة.
سَكن فؤادها ولاذ بعشق صفوة تلك الحياة، وهي تراقب تلك السيدة الجليلة التي أوقدت النار حتى دكنت ثيابها، وعن يمينها طفلان صغيران يتطلبان منها الرعاية والاهتمام، وهي بنت رسول الله "صلى الله عليه وآله"! التي تحملت الفقر إرضاء لله ولنيل الأجر. تدور الرحى بيد السيدة الجليلة وتخترق ترنيمات تسبيحها.. مخيلاتها.. سبحان الله، والحمد لله، ولا اله إلا الله، والله أكبر، أشبه بتعويذة سلام، سكنت روحها المتعبة. هبت نسمة باردة حركت وريقات الكتاب انتبهت مذعورة ارتبكت فكادت تسقط أرضا لكنها تماسكت! أحكمت إغلاق النافذة.
اعتصر الندم قلبها؛ قالت في نفسها: "إن مشكلة الإنسان أنه قليل الصبر". كون لحظة غضب كانت ستنهي عائلة وتحرم طفلة من أنْ تعيش في كنف والديها، وتنتهي بأبغض الحلال إلى الله وتبتعد عن نهج مولاتها الزهراء في الصبر على البلاء.
قررت أن تعود لدار زوجها ما أن تشرق شمس الصباح وتخفي عنه أنها كانت تنوي هجره وطلب الطلاق.
في مساء اليوم التالي بثت القنوات الفضائية شريط اخباري: بعد تصاعد وتيرة الاحتجاجات لخريجي طلاب هندسة الكهرباء فإنّ الدولة استجابت لمناشدتهم وتم تثبيتهم بصفة عقود.
اضافةتعليق
التعليقات