يتفاعل الإنسان مع العالم الخارجي وفق مكنوناته الداخلية والخارجية والتي قد نسميها بالمرئية وغير المرئية. المرئية تشمل الحركة والأفعال والأعمال التي يكون الجسد مسؤول عنها، وغير المرئية هي المشاعر والأحاسيس والعاطفة التي يكون القلب مسؤولا عنها.
والسيطرة على هذه المكنونات وخصوصا المرئية وتوظيفها بالطريقة التي يريدها الإنسان ثابتة ومدروسة، لأنها خاضعة إلى أهم عضو ألا وهو العقل، فالإنسان السليم العاقل مسؤول عن تصرفاته وأفعاله الحركية، إنما الشخص المجنون من الممكن أن تكون تصرفاته عشوائية وغير مدروسة لأنه لا يمتلك السيطرة العقلانية على تصرفاته وسلوكه.
وبما أن الإنسان العاقل مسؤول عن تصرفاته وأفعاله إذن من غير المنطقي أن يوظف مكنونه المرئي وغير المرئي في عمل لا ينفعه ولا يرضي الخالق عنه، ولأمير المؤمنين علي عليه السلام تصوير دقيق في هذا الشأن لتوظيف هذين المكنونين في حياته الشريفة، إذ يقول: (أنى لمن قوم.. قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل).
نجد هنا كيف يوظف المولى المكنون غير المرئي للآخرة والمرئي في الدنيا، ويضع نقطة وصل عظيمة بين هذين المكنونين، فالأعمال الصادرة من المكنون المرئي (الأفعال) هي البذور التي يزرعها الإنسان لينال بها خير الآخرة، والتي بقي يسقيها من المكنون المرئي (القلب)، والهدف في النهاية واحد وجامع لهذين المكنون ألا وهو رضى الله والفوز بالجنان.
ولكي يصل المرء إلى هذا المستوى يحتاج إلى الإلتفات حول بعض النقاط المهمة التي ستمهد له الطريق نحو ذلك ومنها:
- تحديد هدف حقيقي ومستقيم في حياتك: فعندما يحدد الإنسان هدفه سيعرف كيف يوجه أفعاله وطاقاته في العمل، فعندما يكون التعليم والبناء والإعمار...الخ هو لله تعالى، بالتأكيد سيكون الأمر مختلفا فيما لو كان العمل لأهداف دنيوية أخرى.
ويذكر سيد هادي المدرسي في كتابه مفاتيح النجاح، "تماما كما أن الصاروخ الذي ينطلق بلا جهاز توجيه قد يدمر نفسه.. فإن من لم يحدد أهدافه في الحياة ربما اتجهت طاقاته لتدمير ذاتها".
-تشخيص قدوتك في الحياة: هو أمر ضروري جدا بعد عملية تحديد الهدف لأنه سيضعك في دائرة محددة من المقاييس والمستويات والتطوير الدائم، فعندما يكون مثلك الأعلى هو رجل صالح ومؤمن وقريب من الله ومخلص في عمله ستبقى تجاهد دائما في عملك كي تكون في مستوى القدوة ولائقا أمام الله.
-كبح الشهوات: والسيطرة التامة على المشاعر والأحاسيس التي تخرج من نطاق الحلال وتضر ببصيرة الإنسان وتلوث مكنونه غير المرئي وتؤثر على نقاوته وتقواه، بل وتحث على الفساد وتحاول تدمير بنية المجتمع الأخلاقية، والسيطرة التي نقصدها هنا لا تعني إلغاء المشاعر، لأنها بالتأكيد ضرورية ومهمة جدا في مواضع الحلال التي من خلالها تتأسس العائلة وتتوسع المنظومة الإسلامية في العالم، فمن كان قلبه في الجنان لا يوسخ مشاعره في وحل الشهوات.
- الاجتهاد بالعمل للوصول الى أعلى المراتب: كان ابراهام لنكولن الرئيسي الأمريكي الأسبق، يود أن يصبح محاميا مهما، فكان يسير على قدميه 44 ميلا ليقترض مجلدا من (التعليقات بلا كستون)، فضلا عن سيره تسعة أميال يوميا لمتابعة الدروس في كوخ خشبي بدائي، ففي سبيل تحصيل العلم كان يستعذب بذل جهد جسدي وعقلي مهما كبر.
ومن خلال الجهد الذي بذله استطاع الوصول إلى منصب الرئاسة في أمريكا، فإذا كان هدفك الله وقدوتك الإمام علي (عليه السلام) كيف يا ترى سيكون اجتهادك في الأعمال التي تقوم بها؟، وهو يقول: "إن كنتم للنجاة طالبين، فارفضوا الغفلة واللهو والزموا الاجتهاد والجد". (غرر الحكم ودرر الكلم، 21/3).
-الإرادة الدائمة للتطوير: تعتبر القدحة الأولى التي ستشعل غابات ضخمة من الطاقات والإمكانيات في داخل الإنسان، فالشخص الذي يعرف جيدا تكليفه في هذه الحياة من المستحيل أن يتوقف يوما من تطوير نفسه سواء باكتساب مهارة جديدة أو علم جديد أو حتى معلومة، فالمولى يؤكد على هذا الأمر بقوله: "من تساوى يوماه فهو مغبون".
ولأن العالم في تطور مستمر لم يقتصر العمل على بذل الجهد الجسدي كما في السابق، بل أصبح الجهد الفكري يلعب لعبته الكبرى تزامنا مع التطور التكنولوجي الحاصل، وأكبر دليل هو الوضع الحالي الذي نواجهه مع جائحة كورونا، وكيف يتعامل معه الكادر التعليمي سواء في الجامعة أو المدرسة وكيف العلوم تتلقى عبر منصات الإنترنت دون الخروج من المنزل.
وكذلك حضور الاجتماعات وعقد الاتفاقيات وإدارة الكثير من الأعمال المهمة وأنت لم تغادر حتى عتبة باب بيتك..
فالعقل جزء من جسد الإنسان ولا يتوقف عن العمل وفقا للمكان، والعمل لا ينحصر على النشاط الحركي فقط وديمومة العمل متوقفة على النشاط الفكري الذي يتحكم به العقل.
فمهما سعى الإنسان في حياته من أجل العمل المعقود نيته لله استطاع أن يكون لنفسه رأس مال جيد تنفعه في آخرته ويربط عمل الدنيا بمكسب الآخرة، ويحقق غايته القلبية ويفوز بالجنان، لأن التجارة مع الله دائما رابحة.
اضافةتعليق
التعليقات