ظهرت فكرة التعليم عن بُعد في نهايات السبعينات من القرن الماضي بواسطة الجامعات الأوروبية والأمريكية، حيث كانت ترسل البرنامج التعليمي للطلبة بواسطة البريد، وكانت تتمثل حينها بالكتب، وشرائط التسجيل، والفيديوهات لتقدم شرحاً وافياً حول المناهج التعليمية، كان الطلبةُ يندمجون مع هذا النمط التعليمي، ويلتزمون بما يوكل إليهم من فروض وواجبات، ولكن تشترط الجامعات على طلبتها القدوم إلى الحرم الجامعي في موعد الاختبارات النهائية..
هذا كان في السابق.. أما اليوم وفي ظل أوضاع تفشي الوباء، استدعت الحاجة الرجوع إلى هذا النمط من التعليم، ولكن عبر وسائل ووسائط حديثة.. كنا نحسبها كمتابعين ومربّين أنها حاجة عَرَضية ومؤقتة، لكن اتّضح فيما بعد أنها قد تطول، ولا يعلم أحد متى ينحسر هذا الوباء سوى الله سبحانه، فتنتهي بانحساره معاناة الجميع.
ولا يخفى على أحد إن التعليم في العراق في الآونة الأخيرة أصبح عملية مهلهلة تفتقر إلى الجدّية والتوازن المطلوبيْن.. وهنا لابد من وقفة قوية لإيقاف عجلة الانحدار نحو الهاوية، ووضع النقاط على الحروف لتشخيص الخلل الحاصل في قضية التعليم.
كما لا يخفى كذلك إن رداءة التعليم أسوأ بكثير من الأمية ذاتها، لأنها توهم بالقدرة والتفوق، بينما هي في حقيقة الأمر عاجزة عن تلبية متطلبات التفوق والنجاح لأبنائنا الطلبة.
فماذا سيُنتج لنا التعليم عن بُعد؟ وما هي التحديات المستقبلية لجيل الناشئة في تصوركم؟
حملنا هذه التساؤلات وتوجهنا بها إلى الأديب والروائي طالب عباس الظاهر فأجاب قائلاً: قبل الدخول في فحوى الإجابة عن الشطر الأول في سؤالكم، أود مناقشة (جائحة كورونا) كخلفية ومشكلة عالمية راهنة تعصف بحياتنا عامة، وليس فقط على التعليم في العراق.
وأحسب بأننا على ضوء هذا الفهم سيكون النجاح أو الفشل، فعلى مستوى عالمية الجائحة وعلى ضوء فهمنا للظروف المتاحة سنعيد ونكرر القول: بأن إيقاد شمعة أفضل من لعن الظلام، وهو ما يعني النظر إلى نصف الكأس المملوء وترك الفارغ ؛ أي بالتفاؤل بهذا المسعى فقط لأن التوقف يعني مستقبلًا كارثيًا للبلد وللأجيال.
أما على الجانب الآخر المتشائم؛ ومدى توافق البيئة الحاضنة لمثل تلك المعالجة وأعني بها التعليم عن بُعد؟ فسوف أشير إلى ركيزتين من أساسيات النجاح لمثل هذا التعليم وهما: الكهرباء والنت، فهل وجود الكهرباء أو توفر النت يُلبي الطموح لنجاح التواصل بين الهيئات التعليمية والتلاميذ؟ بمعنى إذا كانت المشكلة في الآليات فهل سنحصل على النجاح بالنتائج بغض النظر عن كل التعقيدات الأخرى؟
وهل هذا المتاح في مسعى التعليم عن بُعد يلبي جزءًا من الطموح؟ الجواب سيكون لا طبعاً، لما ذكرنا من شبه الغياب لركائزه الأساسية، ومن ثم فإن حلول التعليم عن بُعد التي تسري في بلدان أخرى لم تأتِ هكذا بالصدفة أو بعد الجائحة، بل كانت وليدة دراسة مُستفيضة من أجل وضع آليات نجاحها مسبقاً، فهل كان الوقت كاف لمثل هذا الأمر الشائك؟ قطعاً هذا لم يمر في أذهان المعنيين مع الأسف، وكان القرار ارتجالياً وترقيعياً ككثير من المعالجات الأخرى عندنا.
وأما إجابتنا حول شطر السؤال الثاني من السؤال، وهو حول التحديات المستقبلية للأجيال؟ فأعتقد إن النجاح مرهون بمدى الفهم لهذه العملية أولاً من قبل الناس، وثانياً بتطوير الدولة وتوفير آليات نجاحها.
أما الدكتور نضير الخزرجي كان له رد آخر؛ كاشفًا من خلاله عن تجربته المريرة الخاصة في هذا المضمار، فيقول:
تسالم أصحاب التعليم في الظروف العادية في مجال الدراسة الجامعية على وجود فاصلة بين التعليم الحضوري والتعليم الافتراضي، وتختلف النظرة إلى الشهادة التي يحملها المتخرج من الدراسة الإفتراضية بين بلد وآخر تبعاً لقوة الجامعة وضعفها، وبعض الدول ترفض الإعتراف بمثل هذه الشهادة حتى وإن كانت الدراسة فيها مُحكمة، ومجرد القول بالدراسة الإفتراضية يُفقد الشهادة قوتها وموضوعيتها، والعراق واحد من البلدان الذي يرفض التعاطي مع الشهادة الإفتراضية على مستوى الإعتراف بها، بل حتى في الشهادة الجامعية الحضورية التي حصل صاحبها عليها في بلد غير العراق، وضعت وزارة التعليم العالي شروطًا صعبة للقبول بها أقلها إخضاع حاملها لامتحانات جامعية على مستوى شهادة البكالوريوس حتى وإن كانَ حاملها قد اجتاز الدراسة الجامعية الثانية ونال شهادة الدكتوراه ومارسها وظيفياً، ولكن التعليمات حكمت عليه الخضوع لشروط الوزارة حتى تعترف بشهادته، وكاتب هذه الأسطر مر بهذه التجربة حيث خضع لامتحانات جامعية للإعتراف بشهاداته الثلاث البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، رغم أنه كان حين خضوعه للامتحان في جامعة كربلاء يمارس دوره الجامعي في لندن كمشرف على طلبة دراسات عُليا فضلاً عن إدارته لقسم الإعلام والأبحاث في دائرة المعارف الحسينية ومقرها لندن.
أقول إذا كان هذا الأمر قائمًا في الدراسات الجامعية فكيف بالدراسات ما دون ذلك!
إذن لابد من الإقرار ابتداءً بوجود فاصلة بين الدراسة الإفتراضية عن بُعد والدراسة الحضورية وفيها يكون التلميذ والطالب على تماس مباشر مع المعلم والمدرس والأستاذ، وفي وضع العراق فإن الفاصلة كبيرة ولا يمكن أن تضيق حلقتها جلوس التلميذ خلف الشاشة الإفتراضية، لعوامل كثيرة منها يتعلق بالمعلم والتلميذ ومنها يتعلق بالوسائل الرابطة بين الطرفين، فالتعليم في العراق شهد تدنيًا واضحاً منذ الحصار الاقتصادي الذي أحاط بالعراق سنة 1990م في عهد الرئيس الأسبق صدام حسين واستمر هذا التدني حتى بعد عام 2003م، ولهذا فليس من المستبعد أن تجد مدير تربية من خريجي عهد ما قبل العهد الجديد، لا يُحسن تحرير كتاب رسمي خال من أغلاط نحوية وإملائية.
ولأن الدراسة الإفتراضية تفترض وجود أداة مشتركة وهي الحاسوب، فإن العراق وكثير من البلدان في الكرة الأرضية تفتقد إلى الأجواء السليمة لاستخدام الحاسوب، فضلاً عن وجود عوائل كثيرة لا تمتلك الحاسوب ويدها خلية من المادة لشرائه، والطاقة الكهربائية المتقطعة لفترات طويلة لا تُتيح سلاسة التعليم الإفتراضي.
والعراق قبل جائحة كورونا شهد تسرباً كبيرًا للطلبة خارج مقاعد الدراسة، وتسيباً أكبر نتيجة ضعف القوانين الرادعة، فما بالك والدراسة عن بُعد ، حيث تنعدم رقابة المدرسة والمدرِّس مزدوجًا بضعف الرقابة البيتية حيث تفشي الأمية، وهي ظاهرة واضحة في العراق وفي غيره من البلدان.
ومع أننا نأمل أن تنتهي الجائحة مع نهاية العام الجاري 2021م، فإنها لا شك قد تركت أثراً سيئاً على مستوى الناشئة ليس في العراق فحسب بل حتى في البلدان المتطورة علمياً، ولهذا فإن نجاح الطلبة سيكون أمراً شبه محسوم، ومثل هذه الثغرة التعليمية سيظل الطالب يحملها في كل مرحلة دراسية، وهذا هو التحدي الأكبر على مستوى الطالب نفسه وعلى مستوى مستقبل التعليم في عموم البلد.
ونون النسوة كذلك تُدلي بدلوها في هذا الاستطلاع.. فهذه السيدة خديجة الصحاف (مدّرسة بمعهد العقيلة للتبليغ الإسلامي التابع للعتبة الحسينية) تذكر لنا من واقع تجربتها التدريسية فتقول:
الدراسة الإلكترونية كأسلوب للتعليم فيها مشاكل كثيرة؛ هي تصلح للدورات الاختيارية التي يتابعها الراغبون وأصحاب الاختصاص، والكثير استفادوا من القنوات التعليمية أو الدورات المتنوعة على مواقع التواصل المختلفة.
أما أن تصبح أسلوب دراسة لعام دراسي كامل ومرحلة دراسية فهذا فيه جوانب سلبية كثيرة، خصوصًا للأطفال الذين لا يستطيعون مواصلة المتابعة بدون ملل أو نعاس، ولن يفهموا الشرح إذا لم يكن المدرّس معهم وجهًا لوجه، عندما يكون الدرس عبارة عن مقطع صوتي فقط. ويزداد التحدي للطلاب وللأهل إذا كانت المراحل تأسيسية للطالب، وهنا يأتي دور الأهل الحريصين على تعليم أبنائهم تعليمًا صحيحاً متكاملا في سد هذا النقص، وأنا أعرف أهالي يحملون عبئًا كبيرًا ومُتعبون جداً في هذا الجانب.
هذا بالإضافة إلى أن بعض الأهالي بسطاء جداً، ولديهم أميّة في معرفة وسائل التواصل، ولا يعرفون التعامل معها ولا يمكنهم مساعدة أطفالهم أبداً؛ فهم وأطفالهم تائهون في هذا الخضمّ ..
طبعًا نحن نتكلم عن التعليم عن بُعد في بلادنا، لكن في بلدان أخرى لديهم برامج متقدمة جدًا بحيث يكون الطالب كأنه في فصله الدراسي مع مدّرسه، وحتى في هذا الأسلوب المتطور هناك مشاكل خصوصاً للطلاب الصغار الذين تصعب عليهم المتابعة عن بُعد .
وقد مررتُ كمدّرسة بتجربة التعليم الإلكتروني، وفي معهدنا عندما عاد الدوام الحضوري اضطررت لإعادة شرح المادة مرة أخرى؛ لأني تبيّنت عدم استيعاب الطالبات الكامل للمادة، بالرغم من الشرح المفصّل ووسائل الإيضاح التي رافقت الشرح .
باختصار: فإن التعليم الإلكتروني يحتاج إلى مجتمع يملك درجة عالية من الوعي، باستثنائية وحرجية الظرف الذي يمر به العالم؛ فعلى الطالب أن يأخذ الموضوع بصورة جديّة، ويبذل المزيد من الجهد لأنه عام دراسي كامل وهو مسؤول عن المواد التي يأخذها خلاله، وأن يراقب الله في الحضور وفي الامتحان... فالله هو الرقيب والناظر، وعلى الأهالي الانتباه لأبنائهم خصوصًا الصغار في المراحل التأسيسية؛ فهذا الظرف سوف ينتهي إن شاء الله والطالب سوف يستمر في دراسته، ثم حياته العملية بعد ذلك، فلا يشكّل هذا الظرف الطارئ شرخاً ونقصاً يؤثر على مستقبلهم ومستواهم العلمي.
أما السيدة خلود البياتي (مديرة شعبة التدريب والتطوير النسوي بالعتبة الحسينية) تنظر إلى قضية التعليم من نافذة تنموية فتقول:
التعليم عن بُعد هو أحد الوسائل المستخدمة لإيصال العلم والمعرفة دولياً ومنذ سنوات عديدة خلت، وقد كان له الدور المهم والنتائج الملموسة في زيادة الخزين المعرفي، وتعزيز مهارات المستفيدين منه، وعند اجتياح الوباء لدول العالم لم يحدث إرباك في المسيرة التعليمية، لأن معظم الدول تنتهجه كفقرة أساسية ضمن خططها الاستراتيجية العامة.
بينما المجتمعات التي وجدت نفسها قد أُقحمت في هذا المجال، أصبحت في حالة شبيهة بالعمى المؤقت، بسبب كمية النور القوية التي واجهتها، فخلّفت لنا موجة من التخبط والشعور بالضياع لدى الطلاب وأولياء الأمور، وكذلك الكوادر التعليمية على حد سواء، وسرعان ما اتخذ الجميع السبل الصحيحة لتنفيذ التعليم عن بُعد بأنسب ما يمكن عمله.
يكمن هنا دور الأسرة المهم والمحوري، وارتكاز التعليم على المبادئ والقيم التي يزرعها أولياء الأمور لدى الطلاب حول أهميّة الإجراء الصحيح في هذه الحالة، كي نصل لمرحلة جني الثمار في المستقبل القريب.
ومن أبرز ما يمر به جيل الناشئة والذي تقع النسبة الأكبر من انتشاره في دائرة تحرك الأسرة، ألا وهو الشعور بعدم الانتماء والضياع في غياهب المستقبل المجهول، بسبب عدم تحديد الأهداف الواضحة وتعيين المعايير الجلية، لذلك يتوجب على القائمين على التربية أن يُسارعوا في رأب الصدع، ومساعدة الأبناء في تعزيز القيم والمبادئ التي تشكل طوق النجاة من مدلهمات الزمان.
أما الأستاذ صادق مهدي حسن (مدرّس لغة انگليزية) فيتحدث بحرقة شديدة، واصفًا الواقع التعليمي بالكارثي.. فيقول:
الحديث ذو شجون واقعاً.. وباختصار شديد: التعليم عن بُعد بكل مقوماته وشروطه لا يتوفر في العراق أبداً لجميع الطلبة بمختلف مراحلهم الدراسية.. ولست أبالغ إن قلت إنما هو (تجهيل عن بُعد !!)؛ لأن قسماً كبيراً من الطلبة لا يتسنى له الحصول على هذا النوع من التعليم بسبب الواقع الاقتصادي، إضافة إلى سوء خدمات الشبكة العنكبوتية وضعفها، بالإضافة إلى عدم اهتمام القسم الأعظم من الطلبة بدراستهم عبر منصات التواصل وبما يقدم لهم من قبل مُدرِّسيهم.. وتكمن صعوبة هذا النوع من التعلم في عزلة الطالب وعدم اختلاطه بطلبة آخرين مما يؤدي إلى غياب روح المنافسة والاتصال، كذلك يفتقر الطالب إلى التعزيز المباشر والإرشاد والتوجيه اللازميْن، كما يغيب دور المعلّم المباشر في توضيح النقاط التي تحتاج إلى توضيح، لذا فإن من المؤكد إن التعليم عن بُعد سينشأ جيلاً جاهلًا يفتقد أبسط المقوّمات التعليمية، ومن المرعب تصور مستقبل هذه الأجيال في الأعوام الدراسية القادمة، وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فالكارثة الفكرية والعلمية والتربوية أضخم من أن تُوصف.
أما القاص علي محمد العگيلي (طالب ماجستير اعلام) فيجيب عن تساؤلاتنا بالقول:
التعليم عن بُعد سينتج لنا جيلًا ضعيفًا على كل المستويات، ثقافته سطحية مستمدّة من مواقع التواصل الاجتماعي، والذي يعكف عليها أغلب الطلاب في ظل عدم وجود دوام في المدارس، وغياب متابعة الأهل بحيث يتم تصفحها من قبل الطلبة لساعات طوال، لغرض التسلية والفكاهة وإقامة علاقات مشبوهة في العالم الافتراضي، والنتائج هي تشتت ذهني وهدر للوقت على اللاشيء، وقتل غير مباشر للإبداع، أما النجاح فهو مضمون على حد تعبير الطلبة بواسطة الغش، حيث يستغل الطلاب عدم وجود أستاذ مراقب ميداني كفرصة للغش، ونقل الأجوبة بكل أريحية..
وأخيراً نقول: إذا توالت تلك الفرص أمام طلبتنا، واستمر الحال كما تنبّه لذلك الأستاذ العگيلي، فإن التعليم عن بُعد سيخرّج لنا في المستقبل جيلاً متمرّسا على اللصوصية والغش، مما يعرّض العملية التعليمية والتربوية إلى انهيار تام، وإلى موتٍ سريريٍ مُحقق.. وهذا ما نخشاه فعلاً.
ولكي لا نكون كما وصفتنا إحدى صديقات الفيسبوك بسخرية لاذعة، إذ قالت: نحن فاشلون بالتعليم عن قُرب، فكيف بالتعليم عن بُعد؟!!
وحتى لا تتبعثر أحلامنا وأحلام أجيالنا بسبب الوباء.. وحتى لا نغرق في لُجّة بحر الضياع أكثر فأكثر، ربما نحتاج أن نفقد الأشياء كي نراها أوضح ونعرف قيمتها ومعناها، دعونا نفتح كوّة أمل في آخر الدهليز، لنطلَّ من خلالها على أمل بحياة متجددة، لأنّ الأمل بالحياة هو سيد الأمنيات على الإطلاق.. فالحياة ستستمر إلى ما شاء الله، ولن يصحّ فيها إلا الصحيح.
اضافةتعليق
التعليقات