هناك وحش من أخطر الوحوش قد ينهش قلب المؤمن بلا ذرّة رحم، إذ يهجم على القلب ويقضي عليه؛ إن لم يهيء العدة اللازمة لمحاربته، فيصبح بذلك ”الأحمق“ الذي لا حيلة في مداواته.
إنّ ”الإثم“ مثل: المال الحرام والنظرة المحرّمة والتهمة والغيبة والنميمة وسوء الظن وغيرها الكثير مما لا يسعنا المجال لذكره.. لا يغري المؤمن المرابط كثيراً حقيقةً، بل يشمئز منها، فإنّ الذي حوّل نحاس قلبه إلى ذهب وحاول بجد واجتهاد أن يصلح ذاته؛ لا تصيبه هكذا نوع من الذنوب، لكن، الذنب الذي يلاحق المؤمن ويصيبه بسهولة بالغة هو عدو خفي، يتسلل بخفاء وهدوء لينقض بعد ذلك بكل قواه على فريسته.
وحشنا الخفي هو ”العُجب“، وهو من أخطر وأرذل الأعداء الذي قد يبتلي به قلب المؤمن!
فتراه يُعجب بعبادته، بعمله، بحسناته.
فالشيطان ذكي جداً، ويعرف جيداً أنّ المؤمن من شبه المستحيل أن يفعل المحرمات بسهولة، لذلك يذهب إليه من غير طريقة، فهو يعرف تفكير المؤمن، بل خلال هذه السنوات درس حياته كلها بتمعّن ودقّة شديدة! ليجد الثغرة التي ممكن أن يدُسّ سُمُّه فيها.
وحش ”العُجب“ خطير بشكل لا نتصوره، لأن الفريسة لا تشعر بوجوده أغلب الأوقات! إلا إذا كانت من القلّة القليلة من اللاتي تحاسبن أنفسهن بـ دقة مدهشة.
فأغلب المؤمنين بمجرد أن يروا أنفسهم أصبحوا ذا مكانة مرموقة في المجتمع تخلّلَ قليل من العُجب في داخلهم أو لو رأوا صاحب الذنب لرأيتهم في أعماق فؤادهم يشعرون أنه أدنى منزلة منهم عند الباري عزّ وجلّ وهذا هو ما يسمى ”بالعُجب”.
لا إشكال إن كنت تنكر وتستقبح الذنب الذي هو عليه، هذا أمر حسن، بل ويجب أن يَكفَهِّر وجهك له، ليشعر أنك لا توافقه على قبيح فعله، لكن يجب أن لا ترى نفسك أفضل منه أبدا.
في يوم من الأيام أوحى الله سبحانه إلى موسى (عليه السلام) أنه إذا جئت للمناجاة فاصحب معك من تكون خيراً منه، فجعل موسى لا يعترض(يعرض) أحدا إلا وهو لا يجسر(يجترئ) أن يقول: إنى خير منه، فنزل عن الناس وشرع في أصناف الحيوانات حتى مر بكلب أجرب فقال: أصحب هذا فجعل في عنقه حبلا ثم مر (جر) به فلما كان في بعض الطريق شمر الكلب من الحبل وأرسله، فلما جاء إلى مناجاة الرب سبحانه قال: يا موسى أين ما أمرتك به؟ قال: يا رب لم أجده فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لو أتيتني بأحد لمحوتك من ديوان النبوة”. ١
موسى (عليه السلام) كان نبي الله.. كليم الله.. لكن مع هذا تمعّن ماذا قال له الله سبحانه: ”لو أتيتني بأحد لمحوتك من ديوان النبوة”!.
فصاحب الذنب الذي رأيته وشعرت أنك أفضل منه؛ ربما لديه عمل بينه وبين الله لا تعرفه أنت وهذا العمل عند الله عظيم بل ويقربه أكثر منك.
أو لو نظرت في أعماق قلبه لرأيت نفسه اللوامة تلومه وخجل من الله تعالى من فعلته وهذا الأمر بالذات من الممكن أن يؤدي إلى توبته في المستقبل القريب بل وأن يكون من المقربين!.
عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
”ولتغربلن غربلة ولتساطن سوط القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم، وليسبقن سابقون كانوا قصروا، وليقصرن سباقون كانوا سبقوا” . ٢ "
يجب علينا أن نهتم لهذا الأمر كثيراً، لأن هذا الوحش هدّام لإيماننا وعباداتنا وأعمالنا بشكل مخيف.
كيف أعلم أن قلبي لا يحتويه العجب؟
أنظر لحال ”قلبك“ عندما تعمل عمل حسن أو عندما يمدحك أحدهم.. هل فكرت من قبل في ذلك؟ ماذا يحصل له؟
ستفرح من عملك أو من المدح؟
للأسف معظمنا مبتلى بهذا ”الوحش الخفي“، فمثلاً عندما يثني عليك أحدهم ويكثر من مدحك في داخل أعماق قلبك هناك شعور بلذة المدح.. فلا يجب على المؤمن أن يفرح عندما يثنون عليه ويعظموه! بل العكس؛ أن يتألم لذلك. يتألم! ولماذا يتألم؟
يتألم لأنه يخاف من ”وحش العُجب“ أن يهجم عليه ويخرب قلبه أشد خراب.
إن رجلا مدح رجلا عند النبي (صلى الله عليه وآله) فقال (صلى الله عليه وآله):
”لا تسمعه فتهلكه، لو سمعك لم يفلح”.
وقال (صلى الله عليه وآله) في موقف آخر مشابه له: ”ويحك! قطعت ظهر أخيك، والله لو سمعها ما أفلح أبدا”. ٣
ليس من الحب أن تبالغ في مدح أحدهم، بل أنت تهلكه بفعلتك هذه! إنك ترمي بسهام مسمومة في قلبه.
وهذا لا يعني أن لا نمدح ولا نشجع أحداً أبدا، بل طبيعة البشر تحتاج لهذا الأمر الإيجابي! بين الفينة والأخرى ليكون لها حافزاً للتقدم والتطوور، لكن يجب أن لا نبالغ به.
عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): ”إذا مدحت فاختصر“ . ٤
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): ”إن قدرتم أن لا تُعرفوا فافعلوا، وما عليك إن لم يثن عليك الناس؟، وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت عند الله محموداً؟“. ٥
كيف أحارب هذا الوحش؟
إنّ من أنجح الطرق لمحاربة ”العُجب“ هي أن يلتفت الإنسان أكثر إلى ”نقائصه“.
تمتدّ جذور وأصول هذا الوحش إلى مدينة إسمها "حب الذّات"، وحب الذات هو من أساسيات حياة الإنسان ومن المستحيل أن يوجَد موجود ذو شعور لا يُحب ذاته.
لكنه عندما يوفّق الله الإنسان للقيام بعمل حسن يأتي الشيطان الملعون ليوسوس له بأنك شخص مميز جداً. فإذا أتى المرء بعبادة مثلاً وسوس الشيطان له بأن يقيس نفسه بأهل المعاصي قائلاً له: أنظر كيف أنّ الآخرين مبتلون بالمعاصي والشهوات وغلبة الهوى في حين أنّك والحمد لله من المؤمنين ومصون من الذنوب. ثم يُحاول شيئاً فشيئاً استدراجه إلى مقارنة نفسه بالمؤمنين ويكشف له عن أولئك المؤمنين المتورطين ببعض الزلات والسيئات. وهكذا هي خطة الشيطان..
عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام):
”إعجاب المرء بنفسه برهان نقصه وعنوان ضعف عقله”. ٦
لا ريب في أنّ من عمل أعمالاً صالحة ولهج لسانه بالأذكار وقام الليالي، وأمثال ذلك يحصل لنفسه ابتهاج، فإن كان من حيث كونها عطية من الله له، ونعمة منه تعالى عليه، وكان مع ذلك ”خائفاً من نقصها، شفيقاً من زوالها، طالباً من الله الإزدياد منها“، في هكذا حالة لم يكن ذلك الإبتهاج عُجباً.
فينبغي على المؤمن أن يشعر دائماً ”بالتقصير“ مهما عمل من ثواب وحسنات ويكون قلبه دائماً بين ”الخوف والرجاء”.
فـ ”التقصير“ هو كل عمل تعمله تريد به وجه الله عز وجل، تكون فيه مقصراً عند نفسك. فإنّ الناس كلهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله عز وجل مقصرون. وقلب الإنسان الملكوتي هو ما بين "الخوف والرجاء"، تارةً عند ذكر الله ولج قلبه وتارةً أخرى إطمئن بذكره..
اضافةتعليق
التعليقات