في ظهيرة يوم قائظ، والشمس كانت قد اعتلت وتوسطت كبد السماء، تبعث بأشعتها البيضاء الحارقة نحو الأرض، لتحيل حياة ساكنيها إلى مرجل فوّار، وأنا أمشي بمحاذاة حائط مديرية التربية نادتني قائلة:
_ ساعدني ياولدي أرجوك لأجل هؤلاء الأيتام.
إلتفتُ اليها فرأيت الفقر واضحا على ملامحها، قد أكلت الفاقة محاسن أيتامها، ثيابهم رثّة، سحناتهم مُتربة.. قلتُ في نفسي: طوال حياتي لم أحنِ قامتي لأحد، ولم أُرق ماء وجهي، يتيما عشتُ مذ فتحت عينيّ على هذه الدنيا، أُستشهد والدي إبّان الانتفاضة الشعبانية عام ١٩٩١، وأنا لم أزل جنينا قابعا في ظلماتٍ ثلاث.
_ أرجوك ياولدي ساعدنا، فليس لهؤلاء مُعيل غيري، أُستشهد أبوهم قبل سنة بالقصف الامريكي للمنشآت، وها أنت ترانا اليوم نفترش الأرض في عز الظهيرة، ساعدنا أرجوك ليس لأجلي بل لأجل هؤلاء الأيتام.
رفعتُ رأسي نحو السماء وقلت:
_ وما أكثر الأيتام في بلدي؟!
إنتبهتُ لنفسي، لملمتُ شتات روحي المبعثرة، أعطيتها المقسوم وقلبي يكاد يتمزّق حسرة على أطفالها المساكين.
إنه قلبي الرهيف ياسادة، ينتفض إذا طرقت سمعه كلمة أيتام، يكاد ينفطر ويتشظى إلى قطع متناثرة كقنبلة موقوتة.. ها هو يطلق صفارة الآه من أعماقه، بل إنه يلملم كل شتات الآهات، ليبرقها رسالة احتجاج لكل العالم: أن قفوا وٱنظروا إلى اليتم كيف نما في بلدي، وكيف ضربت جذوره واستطالت ذراعاه..
آه ثم آه.. كم وددتُ يا إلهي أن أُميت اليتم وأقبره؟! وكم هو جميل أن يغدو الإنسان مجرما في قضية قتل نبيلة كهذه؟!
لكنني اليوم ما عدتُ أطيق رؤية الظلامات، إنها تطبق على أنفاسي وتخرجني عن طوري.. ربُاه إنني لا أطلب المدينة الفاضلة ولا الجنائن المعلّقة، فقط أريد الإنصاف والعدالة، هل ما أطلبه كثير؟!
لكن ما رأيته بعد أن تركتُ المرأة وأيتامها أصابني بالذهول، لقد كان موقفا صادما بكل معنى الكلمة.
حدث ما لم يكن حتى في الحسبان..
صوت نداء استغاثة، جاءني مسرعا من إمرأة أخرى، كانت واقفة على بعد ثلاثة أمتار من هؤلاء..
أشارت لي وهي تنادي:
_ هلمّ هلمّ ياولدي لو سمحت..
_ نعم ياحاجّة ماذا تريدين.؟
_ ساعدني ياولدي فأنا أيضا لدي أيتام!!
حاولتُ أن أتملّص منها، إذ إنني على عجلة من أمري فقلت:
_ الله يعطيكِ ياخالة.. وٱستدرت
وإذا بها تصيح بصوت عالٍ:
_ وحق علي أبو الأيتام عندي أيتام!
عدتُ ثانية إليها وسألت:
كم يتيما عندك ياخالة؟
_ عندي خمسة أيتام صغار تركتهم في البيت، فأنا أرملة منذ عشرين عاما، وليس لدي أطفال!!
إستغربتُ من كلامها، كيف تكون أرملة منذ عشرين عاما ولديها خمسة أيتام صغار، هل هي حزورة أم سفسطة أم ماذا؟
تركتها وانصرفت.. وقد جالت في رأسي أحلامي وأمانيّ التي غابت في هوّة العدم، كانت تدور في مخيلتي وبين تلافيف ذاكرتي، بقيتْ تسرح بلا مرعى، لم ألحّ يوماً في تحقيقها، وأنا أرى كل يوم أُناساً في طريقي يتحسّرون على حياة هانئة، بينما هم يتأرجحون في فضاء الحرمان، كنتُ أتمنى أن يروّضوا الرياح كي تأتي لهم بما يشتهون، لكنهم للأسف يعيشون في دولة نفطية، ذات ميزانية انفجارية يسيل لها لعاب الشرق والغرب.
مثل هذه المرأة كثير هنا، هل ترَكَتني؟ لا... لقد لحقت بي وهي تلحُّ في الطلب قائلة:
_ أنت لا تصدّقني يا ولدي، أرجوك تعال معي الى البيت حتى أريك أيتامي.. ذاك هو بيتي إنه قريب.
وأشارت إليه فهو على بُعد عشرة أمتار من مكان تواجدنا.. لكنني ترددتُ بادىء الأمر؛ ظننتُ انني أواجه مكيدة، أو ربّما كمينا نصبته لي مع شخص آخر، ما يُدريني؟!
إستطرَدَتْ قائلة ونحن نتوجه تلقاء بيتها:
_ ماتت أمّهم بعد ولادتها مباشرة، في حادث دهس أمام منزلي، فما كان مني إلا أن أخذتُ أطفالها، قلتُ لأكسب ثواباً في رعايتهم ومداراتهم، فهم لا يزالون صغارا.. وأنت تعلم ياولدي أنّ راتب الرعاية الاجتماعية ضئيل لا يكفي لإطعامي وإطعام هذه الأفواه الخمسة، إنه سرعان ما يتبخّر تحت وطأة نيران غلاء المعيشة، حتى إنه لا يكاد يصل لمنتصف الشهر.. فماذا أفعل؟
وصلنا إلى البيت، أدارت المفتاح في قفل الباب، تركت باب بيتها مواربا، ثم أشارت بإصبعها إلى صندوق كرتوني؛ وضعته خلف الباب الداخلي وهي تقول:
_ هؤلاء هم أيتامي ياولدي!!
صدمتُ من هذا المنظر، ضربتُ كفّاً بكف، طَفِقتْ كل مشاعر الأسى والضجر تموج في كياني، حدّقّتُ بها بغضب، وٱنفجرتُ قائلا:
_ أستغفر الله .. هل تمزحين معي؟ وهل جئتِ بي طوال هذا الطريق كي تُريني هؤلاء؟!
_ وماذا بها ياولدي؟ وهل اليُتم مختص ببني البشر؟! حتى الحيوان معرّض لليُتم، ويحتاج للمداراة والإعتناء به حتى يكبر، لقد دخلت إمرأة النار بسبب قطة منعتها وحرمتها كما قال الرسول.
لقد أفحمتني بجوابها ومنطقها.. هدأتُ قليلا ثم مددتُ يدي إلى جيبي، وأخرجت مبلغا من المال وناولتها إيّاه.
_ هذا المبلغ يكفي لشراء حليب لأيتامكِ لمدة شهر كامل.. هل أنتِ راضية؟
_ كل الرضا ياولدي.. كثّر الله من أمثالك.
وقبل أن أهمَّ بالانصراف عنها، قلت في نفسي:
_ ما أشد تعاستنا نحن البشر!! إذا كان راتب الرعاية الاجتماعية لا يكفي حتى لرعاية خمسة قطط بائسة... فكيف لآدميين؟ لله درّها من رعاية!!
لكنني نصحتها قائلا:
_ إذا كبر أيتامك ياخالة، اتركيهم يأكلون من خُشاش الأرض من رزق الله.
فأجابتني على الفور:
_ سأفعل ذلك ياولدي، إذا تشكّلت لدينا حكومة عادلة تنصف الشعب، وليس حكومة سُرّاق أو قطّاع طرق!.
اضافةتعليق
التعليقات