ربما كانت المرة الأولى التي فكرت فيها بجدية أن أترك الرقص على وتر الشعر والكلمات المنمقة، والاتجاه المباشر إلى الكتابة الجافة أو بالأحرى الصحفية.. بالرغم من أن قلمي الإبداعي لم يقل شأنا من قلمي الصحفي الجاد.
إلاّ إني لم أتذكر كيف اتخذت هذه الخطوة الغريبة وسحبت نفسي شيئا فشيئا إلى عالم الدم والبارود الكيبوردي.
إذا أردت أن أخدع نفسي وأقنعها بالسبب الذي جعلني أهجر برجي العاجي الذي صنعته لنفسي من الوحدة والشاعرية هو أن الأوضاع التي مررنا بها هي التي جعلتني أبدو أكثر واقعية وأشد صرامة مع قلمي..
فعندما كان الجندي يحارب من أجل شرفي وكرامتي في ساحات الوغى لم يكن من المعقول أن أسهر ليلي وأشرب فنجان قهوتي السمراء وأنا أغرق في شاعرية نزار وعاطفة مستغانمي!.
وحتى من ذكرتهم من أسماء (نزار/ أحلام مستغانمي) قد مروا بأيام أجبروا قلبهم قبل قلمهم أن يعيشوا خلف ساتر الحقيقة ويحاربوا بنصوصهم المليئة بالدم واللهفة عن قضيتهم.
فلازالت روايات أحلام تعج بتفاصيل الثورة الجزائرية، ولا زلنا نشم رائحة الحرية والعروبة من أشعار نزار!.
فالكاتب الحقيقي مهما علا بنفسه وقلبه إلى ذلك العالم الوردي الذي لا يسكنه سواه، سيجد نفسه في الصف الأول من مظاهرة الحق يحمل بيده لافتة كبيرة مكتوب عليها: "هيهات من الذلة".
من هنا وبعد أربع سنوات تقريبا سألت نفسي كيف اتخذت القرار بتركي لساحة الشعر بهذه السهولة وفسح المجال لقلمي أن يسكن صفحات التواصل بصورته (الناشفة)، لو صح التعبير طبعا!.
إلا إني لم أجد جوابا مناسبا، لأني وبكل بساطة لم أتخذ قرارا عقليا بشأن ذلك، بالضبط الأمر حصل بطريقة عفوية وتراجيدية بحتة، كما نفعل أمورا كثيرة دون تفكير، تماما مثلما تستيقظ الأم صباحا وتضع القدر على النار دون أي تفكير أو حيرة!.
ربما لأنها تعلم لو أن اطفالها عادوا من المدرسة سيتجهون فور وصولهم إلى المطبخ ويسألون ماذا طبختِ لنا اليوم يا أمي؟ هل ركزتم في السؤال يا سادة؟، (ماذا طبختِ اليوم؟) وليس هل طبختي أم لا! لأنهم واثقين جدا بأن هنالك طعام، ولأنهم لا يتوقعون بأن تترك الأم اطفالها جياع، هم لا يتعبون أنفسهم بالتفكير حتى، مباشرة يسألون "ماذا طبختِ".
الأمر مشابه تقريبا بين الكاتب والطاهي، هذا يصنع وجبة طعام وذاك يصنع وجبة كلام، هذا يغذي الجسد وذاك يغذي الفكر، إذا كان الطعام فاسدا سيتأذى الجسد إنما إذا كان النص فاسدا ومنحرفا سيتأذى العقل، وهكذا.
هل شاهدتم أوجه التشابه بيننا نحن الكتاب والطهاة، ربما إنه أمر مضحك ولكنه واقعي نوعا ما.
مثلما الأم تشعر بالمسؤولية تجاه أولادها، كذلك الكاتب يفعل ذلك، للكاتب شعب صغير، ومن مسؤوليته أن يرعى شعبه ويحافظ على سلامتهم الفكرية، ويعرف ماذا يطبخ لهم!، عذرا أقصد ما يكتب لهم..
نعود إلى موضوعنا وهو كيف انتقلت إلى الكتابة الصحفية، الضرورة يا سادة هي التي جعلتني أسكن ردهات الأخبار والمقالات، أو بتعبير أصدق الإحساس بالمسؤولية تجاه الدين والوطن، انسانيتي تجاه أبناء بلدي هي التي حركتني نحو القضية.. علما إني كنت بعيدة جدا عن هذه الساحة..
ولكن عندما تجد ليالي العشق قد تحولت إلى ليالي الحرب، ومن كانوا يسهرون على صوت الحب باتوا يسهرون على صوت القذائف والهاونات، هنا ستتحول الأنثى العاشقة إلى أنثى مقاومة.
هنا ستتأكد بأن لقلمك قضية، ولوجودك سبب!، وأي تقصير ينحسب عليك من الله والناس والوطن.
الشعور بالمسؤولية يا سادة هو الذي يحدد موقعك الفعلي في هذا العالم، المرتبة العلمية التي أنت عليها لا تحدد ذلك، ولا حتى الجنس أو القومية، إنما القضية وحدها هي التي تحدد أين تقف ومع من، وماذا تفعل!.
ربما لهذا السبب فقط تجد الطبيب والمصور والعسكري والكاتب والعالم وصاحب العمامة البيضاء والسوداء كلهم على خط سواء في جبهة الحق، جمعتهم القضية، فالدفاع عن الحرمات لا تعترف بالعنوان الوظيفي، كما أن نيل الشهادة لا تحتاج إلى وثيقة جامعية، الله يتبرأ من هذه المميزات الوظيفية، إنه باب الله، والله لا يحب التمييز بين عباده الصاحين، ولا فرق بين العربي أو الأعجمي إلا بالتقوى!.
اضافةتعليق
التعليقات