بين ضجيج الأواني وصراخ الطرقات، بين هتافات العشق التي تلوح بخدمة الزائرين على طول مدة لا تقل عن شهر!، تتوقف الحياة تماماً عن معناها المادي، وتبدأ الحياة رحلتها المعنوية للسفر الى جنة الخلد كربلاء، نستطيع ان نجزم بأن ما يصيب الناس في تلك الأيام هو خارج عن التصور والتصديق.
فعلى الرغم من سوء الاوضاع المادية وترهل الأمن في العراق، الاّ إنك تجد المكان والطعام يقدم اليك دون مقابل، وتحظى لخدمة مشرفة دون ان تكون وزيراً او ابن المسؤول الفلاني.
فتترك الناس بيوتها والتزاماتها الكثيرة وتتجه الى الحسين (ع) مشياً على الأقدام، فما نعيشه خلال الأربعين الحسيني حقيقة وبلا مبالغة يعتبر أجواءاً استثنائية بحتة.
وحتى نكون أقرب الى الواقع، من العادي جداً ان ترى الشخص الذي لا يدري على طول السنة فيما إذا كان جاره جائعاً او محتاجاً، ولكن في الأربعين ترى نفس الشخص يتوسل بالناس والفقراء لكي يتناولون من زاده الذي طهاه باسم الحسين.
وفي الطرف المقابل تجد الشخص الذي يحمل عزة نفس فاخرة ويتباهى بماله وجاهه، يتوسل بالناس ويقبل اقدام الزائرين بكل تواضع ومودة لكلي يدنون من مجلسه وبيته.
وتلمح في الجهة الأخرى الشاب الذي لا يكلف روحه بالأيام العادية ليجلب لنفسه كوباً من الماء يخدم الزائرين من الصباح الباكر حتى نهاية الليل دون شكوى وملل.
في الحقيقة ما تشاهده من العجائب والغرائب في تلك الأيام يجعلك تشك بأن العالم كله مسحور، فالحب والوئام والمعاملة الحسنة تفوق التصور الطبيعي فتتخيل نفسك بالجنة.
الجميع يخدمون بعضهم تحت راية الوحدة، فلا تميز ولا تفرقة، بالرغم من اختلاف الألسن والألوان الاّ ان الجميع في كربلاء سواسية.
كنت أفكر مع نفسي ماذا سيحصل بعد الأربعين؟، هل ستبقى البيوت فاتحة أبوابها لاستقبال الفقراء؟، هل ستبقى الموائد تطعم الجائع؟، هل هنالك من يقدم للناس خدماته دون مقابل؟، هل سنعيش في هذا الوئام؟، ام ستعود التفرقة تلسع نيرانها بين الطوائف بحجة انت عربي وذاك اعجمي؟
اذا انتهت الزيارة، وتجاوزنا مراسيم الاربعينية، بالتأكيد ستلملم المواكب اغراضها وتعود ادراجها من حيث أتت، ولكن ماذا عن مواكب القلوب؟، هي الأخرى ستلملم نفسها وتختبئ من الضمير ام ماذا؟.
لماذا لا ندع قلوبنا في خدمة الحسين طيلة أيام السنة؟، لماذا ينتهي كل شيء بمجرد انتهاء الأربعين؟، على الرغم من ان هنالك أشياء عظيمة يجب ان لا تنتهي ابداً.
هنالك أشياء تبدأ من الأربعين، عندما تكون كربلاء هي بمثابة نقطة تحول للإنسان حينها ستكون الأربعين هي الخطوة الاولى للتغير، والرحلة التي ستتكفل بتهذيب النفس من شوائب هذه الدنيا الفانية...
فلو قصدنا الحسين بنية التغيير والإصلاح، كيف يا ترى سنعود من هذه الرحلة؟، لو تطبعت ثورة الحسين (ع) في نفس كل زائر وعرف الامام حق المعرفة وآمن بالأهداف التي ضحى من اجلها الامام لإحقاق الحق والتمرد على الظلم، لتركنا النزاعات والكره، وتوافد العالم كله الى مدرسة الحسين، وتوحدنا بالإنسانية التي أقرها الإمام.
هنالك من يرى زيارته الى كربلاء هي زيارة مادية، الاّ ان في الحقيقة هذه الزيارة تترك اثاراً عميقة في النفس من التغيرات المعنوية التي تتجلى في اخلاق الفرد وسلوكه، وحتى في علاقته مع الله.
فلو احببنا الجميع وتعاملنا مع الناس بأخلاق عالية كما نتعامل مع الزائرين في الأربعين الحسيني، كيف ستكون لون ارواحنا حينها؟، اعتقد بأنها ستكون مائلة الى البياض، فماذا لو بقيت الاخلاق الحسينية معنا طيلة أيام السنة، كم سنرتفع بأهداف الحسين ونكون أقرب الى مدرسته..
ولكن هذه الخطوة (خطوة التغيير) تحتاج الى عزيمة وإصرار يصلان الانسان الى العلو الإلهي، فكل تغيير سيتجلى بالقدسية لكونه من الله والى الله، فالتغيير الذي يرافقه بركة الحسين (ع) بلا شك سيكون تغييراً جذرياً يطبع الإحسان والخير في نفس العالم قبل نفس صاحبه..
لأن الأربعين الحسيني بمثابة البذرة التي نزرعها في التربة، في البداية لا ننتبه الى وجود البذرة في العمق، ولكن عندما تبدأ البذرة بالنمو سنشاهد الزرع يكبر شيئاً فشيئاً، فما علينا حينها الاّ ان ننتبه الى أنفسنا ولا ندع آفة الذنب والعصيان تقترب منا، ليسقينا الله على اثره من عذب كوثره، فتزهر ارواحنا بطاعته ورداً وياسمينا.
اضافةتعليق
التعليقات