اجتمع جمع من الطلبة في بهو القاعة الدراسية المتربعة في قلب المدينة الصاخبة، كل ما فيها كان يتحدى التكلف بازدراء، ويهمس في الأذن الصاغية أنه يمكن صناعة الحياة بحياكة بسيطة وسبر أغوار الحكمة بأقل الزاد.
نظر أحدهم إلى باقي رفاقه بحالة من اليأس؛ تُبين بجلاء سقوطه في أحابيل خيبة الأمل:
ماذا سنفعل؟!
لقد باءت كلُ خططنا بالفشل.
أومأ رفيقه بحيرة، وهو يرفع عمامته البيضاء الملفوفة بعناية خاصة، حيث توالت طبقاتها تباعاً برتابة أنيقة وحركات دائرية متكررة، انتهت بحنك أحاط ذقنه، فأضاف على وجهه شيئاً من وهج الإيمان؛ لكنه لم يخف هموده البادي على محياه:
لقد قمنا بكل المآثر الواردة من أجل اللقاء بالإمام الحجة (عج) ولابد من وجود خلل في مكان ما، نقطة غابت عنا أو غفلنا عنها.
مضت خطى الأيام تسجل تراكماً في دفتر العمر دون هوادة، حتى جاءهم الخبر أن المولى سيكون متواجداً في صحن الإمام الحسين (ع) في اليوم الفلاني.
كان وقع الخبر صاعقا وغير متوقع، أحال هدوء الساعات الرتيبة الروتينية، إلى تلاطم هائج يسير بالطلبة إلى عالم الأحاجي الغريب في متاهات لا تعرف الوصول.
استعد كل منهم للسفر..
كان الفجر مشبعاً برذاذ خفيف ما لبث أن تلاشى مع الخيوط الأولى من أشعة الشمس النافذة في كل الإتجاهات، لم يكن في اليوم مناسبة خاصة؛ دخلوا في الرواق المطل على الساحة، بدا الصحن غير الصحن والمقام غير المقام.
كانت الجدران تتمتم بتمائم غير معهودة، كأنها تعزف إيقاعاً تتراقص على أثر ابتهالاتها ثريات السقف المزين بقطع المرايا العاكسة لمطامير النفوس، بينما ينشغل القليل من الناس بأداء مناسك الزيارة بأصوات موسيقية ما ورائية.
أخذوا بالبحث عن أي شئ غريب يوحي بجديد.
تراءى لهم على بعد خطوات؛ شاب في جانب من الصحن الشريف قد انشغل ببسطة عرض فيها للبيع مفاتيح بلا أقفال، وأقفال بلا مفاتيح، وأقفال مع مفاتيحها، حيث كان هذا الأمر سائداً آنذاك في العراق، تلك البقعة الملتهبة بالعجائب والغرائب دائماً وأبداً!.
تقدم نحو البائع شاب عفيف بدا في هندامه صراع مرير للملمة ملامح الفقر الفاحش، فقال بتململ:
عندي قفل ليس له مفتاح، أرجو أن تشتريه مني بسعر مناسب لأعيل أيتاماً ينتظرون الطعام!
راح الأخير يبحث في أقفاله حتى وجد مفتاحاً لقفل الرجل فقال له:
إن قيمة قفلك فلس واحد، ومفتاحي أيضا فلس واحد، وقيمة كليهما معاً خمسة فلوس؛
سأبيعك المفتاح (بالدين) بفلس واحد.
نظر الشاب إلى بائع القفل بحيرة، بينما راح الآخر يستأنف المعاملة قائلاً:
بعني قفلك ومفتاحك بخمسة فلوس!
قبل الشاب، فأخذ أربعة فلوس بعد أن أرجع للبائع فلسه الذي استدانه.
وقف الطلاب مذهولين من هذه المعاملة وكل ينظر إلى الآخر باستغراب.
كان قد جلس عند بائع القفل رجل يبدو وكأنه يرجع من مكان قصي وزمان سحيق، في محياه سيماء الصفاء، يكاد المرء يسمع من حوله همسات الملائكة ورفيف أجنحتها الأثيرية، حسن الوجه قد انحسر الشعر عن جانبي جبهته، طويل الأنف، وجهه كالقمر الدري..
قام وتوجه نحوهم تحيطه هالة من الخشوع الصامت وقال: كونوا كهذا الشاب (مشيراً إلى ذلك البائع) حتى يزوركم الإمام بنفسه، ثم ذهب عنهم غائباً في اللامكان.
هاج الطلبة بينهم متسائلين من كان هذا الشخص؟!
فقال أحدهم فزعاً:
لعله الإمام؟!
أخذ كل منهم جانباً من الصحن يبحث فيه عن الرجل ولكن دون جدوى!
لقد كان غائباً في طيات نفوسهم التي تختلط فيها موازين التعامل، حيث لابد من شحذ الهمة للصيقلة من جديد.
كان الشيخ مرتضى الأنصاري من كبار علماء الشيعة في القرن الثالث عشر، وقد تصدى للمرجعية بعد الشيخ (محمد حسن النجفي) صاحب الجواهر، واشتهر بالشيخ الأعظم ولقب بخاتم الفقهاء والمجتهدين، كما يعتبر كتاباه الرسائل والمكاسب من أمهات الكتب العلمية التي غيرت مسار الحركة الفقهية في الأوساط الحوزوية.
في بدايات دراسته العلمية كان منشغلاً بحرفة بيع المفاتيح والأقفال حيث يكتسب عدة ساعات في اليوم ليحصل على ما يستطيع به إمرار معاشه..
اضافةتعليق
التعليقات