كنت في طريقي إلى المكتبة لأشتري بعض الحاجيات, ناولني صاحب المكتبة ما طلبت, ثم ما لبث حتى عاد مسرعا ليكمل حديثه مع الشابة, إذ يبدو إن الحديث كان شيقا, تمالكني الفضول للوهلة الأولى لمعرفة سر تلك التمتمة إلا إني تجاهلت الأمر وبقيت واثبا مكاني حتى يسترجع لي صاحب المكتبة المال المتبقي, لكن يبدو أنه تناسى وجودي تماما ونسي أمر المال, امتعضت.. ثم ترجلت نحوه بخطى ثقيلة وقاطعة حديثه الذي كان منغمس فيه.
اعتذر مني بخجل ومضى مسرعا, وبينما همَّ بإخراج المال من الدرج سمعت الآنسة تستطرق بحديثها قائلة: "إن هذا البحث غالي أود شيء ارخص من ذلك".
فأجابها: "هذا بحث لأستاذ متخصص وهو مفصل وستفهمينه بسرعة كما يمكنك حفظه ومناقشته مع الأستاذ دون تعب".
كان الوقت قد نفذ ولابد من مغادرة المكان, إلا إن تلك الجملة بقت عالقة في ذهني كما راودتني الكثير من الأفكار حيال هذا الأمر, ففي وسط الكم الهائل من أنواع الفساد الاقتصادي والاجتماعي الذي نقبع فيه نعيش الان ظاهرة سلبية جديدة وهي شراء بحث تخرج جاهز من أقرب مكتبة دون أي جهد...
كانت هذه بداية حديث رياض ابو الهيل مدرّس لغة عربية حينما دخل إحدى المكاتب لشراء بعض الحاجيات ليشهد تلك الواقعة التي استشرت بشكل واسع ينذر باستفحال هذه الظاهرة.
موقع (بشرى حياة) رصد بعض أصحاب المكاتب إلا أنهم كانوا حريصين جدا في الحديث في سياق الموضوع وبعد جهد استطعنا من جمع بعض المعلومات لاستكمال استطلاعنا هذا لبيان تأثير هذه الظاهرة على المجتمع..
الطلبة وآراؤهم
حدثتنا طالبة المرحلة الأخيرة إخلاص داود في جامعة أهل البيت قسم الصحافة والتي نال بحثها كأفضل بحث في قسم الصحافة قائلة: "أنا أعتبر فترة كتابة بحث التخرج هي رحلة علم تضاف للطالب ومهارة جديدة رغم التعب والجهد لكنها رحلة مثمرة بالعطاء المعرفي هكذا حسبتها منذ البداية, وكنت مستمتعة وأنا أقوم بجمع المعلومات والمصادر وكتابة منهجية البحث وقد وفقني الله ليكون بحثي هو أفضل بحث في قسم الصحافة في جامعة (أهل البيت) وكذلك ثاني أفضل بحث على الجامعة بشكل عام".
وأضافت: "أن الأسباب التي تدفع الطلاب إلى شراء بحوث التخرج من المكاتب فهي عديدة فأما يكون إهمال وكسل من قبل الطالب, كون بحث التخرج يحتاج إلى وقت وجمع معلومات ومصادر ومجهود وتركيز وكذلك تدقيق للمصادر التي يجمعها, أو يكون الطالب صاحب عمل, أو مهنة لا تجعله متفرغ, أو يكون الطالب لم يستوعب من الأساتذة كيفية كتابة البحث فيكون جاهلا بالمعلومات الأساسية التي يبدأ منها في كتابة البحث, أو يكون مشرف البحث غير مهتم في الطالب من أجل حثه وتشجيعه ومعاونته في مسيرته حتى يكمل بحثه".
وتابعت قائلة: "ولربما هناك أسباب أخرى تدفع الطالب لشراء بحث تخرجه من المكاتب ليريح نفسه وينجح في مادة بحث التخرج, وهي ظاهرة موجودة وباتت تتوسع وتنتشر وللحد من هذه الظاهرة يجب أن تستنفر الحكومة دورها في معاقبة أصحاب المكاتب ومراقبتهم, كونها تعد نوع من أنواع الغش الدراسي, ثم محاسبة الطالب من قبل إدارة القسم لكل من يشكون فيه, خصوصا إن الطلبة الذين يشترون البحوث ينكشفون خلال مناقشة بحثه أو يعلم به الأستاذ المشرف على بحثه, فهناك فرق بين الطالب الذي يشتغل في بحثه فيتميز بكثرة الأسئلة والاستفسار والتي يوجهها لمشرفه طيلة فترة كتابة البحث, أما الطالب الذي يشتري بحثه من المكاتب فهو لا يعلم شيء عن منهجية البحث أو كيفية جمع المصادر أو كتابة الهوامش وأول من يكشفه هو أستاذه المشرف على بحثه, وكذلك التأكيد المستمر على الطلبة بالاعتماد على أنفسهم كونها مادة حالها حال بقية المواد الدراسية التي ترفع من معدل الطالب".
وفي السياق نفسه حدثنا الطالب حسين عامر في المرحلة الرابعة قائلا: "إن لجوء الطالب إلى شراء بحوث التخرج جاهزة يمكن أن يحدد بأسباب متفرعة منها نظام التعليم المتبع في دراسة الكليات كونه نظام لا يواكب التطور الحاصل في بقية الدول, إن النظام المتبع في عموم جامعات العراق هو نظام بدائي وغير متطور من حيث التعليم وأساليب وطرق التدريس التي لا يمكن أن تعتمد سوى التنظير ولكن يجب أن تحاكي الواقع العملي حتى يتمكن الطالب ان يستفاد من المعلومات التي يستقيها من دراسته ويطبقها على أرض الواقع".
وتابع قائلا: "هناك بعض الدول اعتمدت بعض أساليب التدريس منها عدم وجود امتحانات نهاية السنة, ولكن ينبغي على الطالب أن يدون المعلومات التي يحصل عليها من سنته الدراسية على شكل بحث ويناقش به, اذ يشجع هذا النظام الطالب على تنمية قدراته في التعليم وتطوير مهاراته, وكذلك يستفاد من المعلومات بشكل اكبر من ان يمتحن بها, فإن كان لدينا مثل هذه الأنظمة متبعة في منهجية دراستنا فإنها تدفع الطالب لعدم اللجوء لشراء بحوث التخرج لأنها لا تصب في مصلحته ولا تساعد على الاستفادة من دراسته".
وأشار بحديثه إلى إن: "هناك جانب لا يمكن أن نهمله وهو أن بعض من يلتحق بالجامعة يأتي للتسلية واللهو وإنشاء علاقات وما شابه, ولا نعمم هذا على الجميع سوى في الجامعات الأهلية أو الحكومية, وهناك العكس إذ يكونون أشد حرصا على ان لا يضيعوا وقتهم دون ان يحضروا المحاضرات ويستفادون منها ليحرصوا على أن يكتبوا بحوثهم بأيديهم لكي يحصدوا ثمرة ما زرعوا من دراستهم وتعلمهم ويوظفوها بالشكل الصحيح".
إعلانات صريحة
ومن جانبه يعترف طالب في المرحلة المنتهية من دراسته الجامعية رفض ذكر اسمه بأن هناك إعلانات صريحة حول هذا الموضوع ويبدو على محياه عدم الاكتراث فقد كانت صراحته مفرطة إذ استطرد قائلا: "أخي صاحب مكتبة وأنا ساعدته في ترويج إعلانات حول موضوع بحوث التخرج, كما اتفقنا مع أستاذ في مساعدتنا مقابل نسبة من المبيعات وكانت الاتفاقية مثمرة, حتى انا تخلصت من عناء إجراء البحث الخاص بي".
وعن سبب عدم اهتمامه لأهمية الأمر قال: "كل شيء في بلدي ينذر بالاضمحلال وان كنت أنجزته أنا وتحملت مشقة الأمر ماذا سيحصل بعدها, هل سأعمل بشهادتي مثلا؟ هذا أخي خريج كلية آداب وهو يعمل صاحب مكتبة منذ سبع سنوات ومن المؤكد بأني سألاقي المصير نفسه".
كانت تلك الكلمات أشد ألما لما سمعته إذ لربما اغلب من يعتمدون على انجاز بحوثهم في المكاتب هم يعانون من الإحباط لما يمر به البلد من ويلات الحروب ونكباته المتتالية, وأهمها البطالة التي أصبحت تحطم آمال كل العراقيين.
وحول أسعار البحوث سألنا احد أصحاب المكاتب دون الإدلاء بهويتنا إذ قال "مو كلهن سوه كلمن وسعره يعني حسب المطلوب".
وحينما عدنا بالسؤال كيف يكون حسب المطلوب؟
امتعض من الإلحاح وأجاب: "شنو اختصاصك, كلمن وسعره, اكو بحث 150الف ويوصل 250 ألف وحتى 300 و 400 ألف شنو تردين بالضبط حتى اخدمج؟".
صمت لبرهة ثم قلت:" الاسعار غالية عليّ ما اكدر اشتري".
ثم غادرت المكتبة.
الهدف من البحث
فيما أدلى مازن عدنان يوسف الزبيدي أستاذ آداب انكليزي رأيه قائلا: "يؤسفني أن يصل المستوى التعليمي إلى هذا الحد المتدني, إذ يخون بعض الأساتذة شرف مهنتهم التي تخرج أجيال إلى المجتمع".
وأضاف: "نجد اليوم اغلب الطلبة إذا طلب منهم إعداد بحث يلجأون إلى مكاتب خاصة لبيع البحوث, ويفضلون دفع مبالغ مالية مقابل الحصول على أبحاث جاهزة ومعلومات توفرها مكاتب خاصة مقابل مبالغ مالية, وربما يتم توصيلها إلى الجامعات, وهؤلاء الطلبة هدفهم الأول الحصول على شهادة متناسين دور البحوث في تأهيلهم وإعدادهم على نحو يمكنهم من المنافسة في المستقبل".
وتابع الزبيدي: "أن كتابة الأبحاث الأكاديمية هدفها تحسين مستوى الطالب علمياً, حتى يصبح مؤهلا أكاديميا لشغل أي وظيفة والتعامل مع الموظفين من خلال كتابة خطابات أو تعاميم أو بيانات".
وأشار بقوله: "إن تلك المكاتب تستغل ضعف رقابة وزارة التعليم العالي والجامعات وثغرات في التشريعات القانونية مما يضعف كفاءات الخريجين, ويقوض مستويات التعليم الجامعي, ويسيء لسمعة التعليم, كذلك يضع بعض الأساتذة شروطاً تعجيزية ومعايير بعيدة عن المنهاج في الكليات, الأمر الذي يدفع الطلبة إلى تلك المكاتب لإنجاز مشاريع التخرج".
بحث التخرج اللبنة الأولى للطالب
وحول أهمية هذا الموضوع حدثنا الدكتور محمد اسعد صالح الكعبي أستاذ في كلية الطب البيطري قائلا: "إن بحوث التخرج لطلبة المراحل المنتهية في الجامعات تعد كثمرة للجهد المضني الذي بذله الطلبة خلال سنوات الدارسة, فنرى إن كثيرا منهم يهتم ويجتهد ببحث التخرج, أو ما يعرف بمشروع التخرج فيحاول اختيار المواضيع المفيدة والمهمة, سواء كانت علمية أو أكاديمية ذات منفعة للمجتمع, ولكن لوحظ في السنوات الأخيرة ان الكثير من المكتبات تتعاون مع بعض الأساتذة الذين يفتقدون إلى الأمانة العلمية قيامهم بأعداد بحوث جاهزة يستلمها الطالب ويسلمها بدون قيامه بكتابة أي حرف من حروف البحث, حيث أصبحت هذه المكتبات تعلن وبصورة رسمية عن إعداد بحوث للطلبة وبأشراف أساتذة أكفاء كما يدعون, والحقيقة إن لهذا الأمر عدة منعطفات تنعكس على الواقع العلمي والأكاديمي".
وأشار إلى: "إن معظم البحوث التي تعدها هذه المكاتب تكون غير علمية وركيكة من ناحية اعدادها ووحدة موضوعها وطريقة عرضها, كما تقتل روح البحث والمثابرة عند الطالب, حيث إن من اهم فوائد البحث هو زيادة معرفة الطالب بالموضوع الذي يعمل عليه وهذا يأتي من كثرة القراءة للمصادر والمراجع, واغلبها تعتمد على مصادر الانترنيت وهذه مصادر مغلوطة وغير صحيحة وربما معلومات لا تتوافق مع فكرة الموضوع الذي يطرحه الطالب, وذلك لعدم التزامها بالمعايير التي تكتب بها البحوث, لكون الأشخاص الذين يعدونها ليسوا ذوي اختصاص".
وواصل الكعبي قائلا: "يعد بحث التخرج اللبنة الأولى للطالب الذي يطمح بإكمال دراسته العليا, لذا إن عدم انجازه للبحث سوف يفقده الكثير من المعلومات حول إعداد خطة البحث وطريقة العمل كذلك أسلوب كتابة البحث وآلية عرض نتائجه, كما إن تعاون بعض الأساتذة مع هكذا مكاتب وتوجيه الطلبة إليها لدليل على افتقادهم إلى الأمانة, والتي تؤدي إلى ضياع الرصانة العلمية وبالتالي التأثير على مستوى الطالب والذي ينعكس على مستوى الجامعة العلمي, كما إني أناشد الجهات المسؤولة على محاربة هذه الظاهرة ووضع خطط تقضي بغلق هكذا مكاتب, ومحاسبة الأساتذة الذين يتعاملون معها, إضافة إلى التشديد على البحوث المعدة من قبل الطلبة من خلال مراقبة آلية عمل الطالب خلال البحث ومراقبة المشرف من قبل لجان علمية متخصصة من كادر الكليات".
اضافةتعليق
التعليقات