عندما نتابع مسيرة الإنسان الطويلة على هذه الأرض عبر الكتب السماوية التي أنزلها الله للبشر على يد الصفوة من عباده الذين استخلصهم لهذه المسؤولية، نجد أن ذلك كله لطفاً منه ورفقاً بعباده ورأفة بهم وعناية منه سبحانه وتعالى ليجعل من هذا الإنسان المخلوق المكرم والمفضل على بقية المخلوقات متى ما آمن بالله واستمع إلى ما يتلى على الرسل والأنبياء وقبول دعوتهم الحق.
فكان الإنسان هو غاية الأنبياء وهمهم الأول وقد عانوا من أجل هدايته وخلاصه من عبادة العباد إلى عبادة الله كل صنوف المشقة وألوان العذاب، فلم يهنوا أو يحزنوا بل واصلوا مسيرتهم في سبيل الدعوة إلى الإيمان بالله، ونوح أول نبي حمل أعباء هذه الرسالة الإلهية والدعوة التوحيدية فكان أول أولي العزم، فآدم هو أبو البشرية ولكن لم يرد هناك نص قرآني أنه حمل الرسالة للبشرية بما سنفصله بعد مجيئه للأرض، وإنما كان هادياً وفق بعض الارشادات والأوامر الإلهية في الجواز وعدمه، وكان يراقب أبناءه ويربيهم على عبادة الله فكانت رسالته خاصة بينما رسالة نوح كانت عامة لكل الأقوام.
يتضح من خلال استقراء التاريخ في تلك الفترة الزمنية التي كانت قبل نوح وبعد بعثته ومن خلال الآيات القرآنية التي تحدثت عن تلك الحقيقة التاريخية وعن رسالة نوح تؤكد أن المجتمع كان يعيش في حالة من التقدم والرفاهية وقبل ولادة نبي الله نوح كان هناك رجال في قومه صالحين من أجداد قبيلته وكانت لهم مكانة اجتماعية عظيمة فعاشوا زمناً ثم ماتوا، وكانت أسماء هؤلاء كما ينقلهم التاريخ (ود، سواع، يغوث، يعوق، نسرا) فبعد رحيلهم صنعوا لهم تماثيل ليبقى ذكرهم في القوم وانتقلت التماثيل من جيل الى آخر حتى وصل الى قوم جعلوا ينقلون القدرة والقوة فاستغل ابليس الفرصة وأوهم الناس البسطاء في العلم انهم يعبدون هذه التماثيل واشار إلى هذه القصة القرآن الكريم "وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا". وذهب بعض المفسرين إلى أن هذه سيماء رجال صالحين من قوم نوح مما يدل على أنه كان مجتمعاً صالحاً في بداية أمره ثم أنحرف وتحول هؤلاء الرجال الصالحون إلى تماثيل وأصنام يعبدون من دون الله.
نجد في عهد نوح سار الناس قدماً في العلوم وتقدمت الأمة كثيراً وازدهرت بلادهم من الناحية العمرانية والاقتصادية وفي ظل النعيم وتسخير الأرض لهم، طغت المادة عليهم فترفع بعضهم على بعض وانقسم المجتمع الى طائفتين مستكبرة ومستعبدة تحولت فيها موازين القوى وبدأ الجفاف يضرب البلاد ويهلك العباد بسبب تكدس المال في يد طبقة مستكبرة من الأغنياء أخذت بيدها القوة لتستعبد بها المجتمع وأصبح المال كل شيء عندهم.
ومن أهم بنود دعوة نوح ومن الخطوات الأساسية التي اتخذها في هداية قومه كان هو الإنذار وإشعارهم بالخطر المحدق بهم حيث كان له بالغ الأثر في نفوسهم، هكذا هي عادة الإنسان يتوقى ويحذر عندما يشعر بالخطر فقد جبلت نفسه على الدفاع عن ذاته وإبعاد المكروه عنها حتى ولو كان محتملاً، كذلك العكس عندما لا يشعر بالخطر فإنه لا يتحرك من مكانه فهو مفطور على الدفاع عن ذاته، والتأكيد على مسألة الإنذار إنما هو من أجل إيقاظ النائمين والغافلين لكي ينتهبوا إلى مصيرهم ويحذروا من مغبة الخطر المحدق بهم، فهذه الدعوة الأولى التي تجسدت في أول نبي من أولي العزم من الرسل بأصولها الثلاثة يتصورها الإنذار الذي يحملهم مسؤولية الرسالة وهذا هو الأصل الانذار بمثابة برنامج رئيسي في دعوة نوح.
يستمر نوح في دعوته لقومه ويعتمد هذه المرة على عامل الترغيب عله يجدي نفعاً لنجاتهم وخلاصهم والوصول بهم إلى مدارج الكمال والهداية، ويعتبر أن رجوعهم إلى الله تعالى عبر الاستغفار الذي يعني في داخله استئصال كل جذور الماضي والعودة إلى الله فإن في ذلك عودة الحياة الطبيعة لهم بخيراتها وانفتاح أبواب الرحمة الإلهية عليهم من كل جهة إذا ما تابوا إلى الله وتركوا الشرك وجانبوا الذنوب والخطايا.
ولقد كان لصبر نوح الأثر البالغ في نشر دعوته حيث بقي صامداً طيلة عمره المديد 950 عاماً مع قلة عدد الذين آمنوا به كما روي المفسرون أن نوح كان يأتي قومه فيدعوهم إلى الله فيجتمعون عليه ويضربونه الضرب المبرح حتى يغشى عليه ثم يلفونه في حصير ويرمون به في الطريق ويقولون أنه سيموت بعد هذا الضرب، فيعيد الله طاقته ويرجع إليهم في اليوم الثاني، ومع هذا لم يؤمن به غير ثمانون شخصاً، أي أن في كل 12 عام يهتدي به فرداً واحداً. هل يمكن اليوم أن نجد داعية اسلامية أو مبلغاً يصبر على قومه مثلما صبر نوح 12 عام لهداية فرد واحد؟.
وهذا العامل نجده في كل عصر لذلك تجد الملاذ من الهلاك والعذاب هو الاستغفار كما قال الله تعالى (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) وهذا ما يعبر عنه بالنمو الاقتصادي والبشري حيث تشارك عملية الاستغفار في فعل ذلك وبه تطوير المجتمع وينمو في كل جوانبه ولذلك أطعمهم الله في خير الدنيا والآخرة إذا استغفروا ربهم، أطعمهم في الرزق والوفير الميسور كالمطر الذي يرجونه وبه تنبت الزروع وتسيل الأنهار ووعدهم أن يرزقهم بالذرية التي يحبوها وبالبنين والأموال التي يطلبونها.
الاستغفار أنقذهم من الانهيار، فلماذا لم تقدم مجتمعاتنا اليوم على التدبير في كتاب الله وستجد أن هناك شيء يرفع البلاء ويدفع الداء ويمددهم بالمال والبنين والعافية وهو ذكر يتردد باللسان فلنكن من القوم المستغفرين الذين أمدهم ربهم بالخيرات ودفع عنهم السيئات.
اضافةتعليق
التعليقات