خَلَق الله عز وجل ما لا يعد ولا يحصى من المخلوقات والأمور المادية والمعنوية أيضاً، ومن أعجبها (العقل)، ذلك المخلوق المعنوي الغير محسوس الذي اختص به الانسان دون غيره من باقي المخلوقات وميزه به حيث له القدرة العجيبة بأن يرفع الانسان إلى مستوى الأولياء أو يهوي به إلى مستوى البهائم أو دون ذلك!.
كل الأمور تتوقف على ذلك (العقل)، حتى الجسم المادي يكون مرتهن بذلك العقل، هو الميزان الدقيق في اختيار الأمور، فعندما نجد من يسرف مثلاً في التدخين أو الحمية الغذائية أو هوس التجميل يأتي السؤال مباشرة "أين عقلك؟" فكيف ترمي نفسك في التهلكة ومخاطر الأمراض!.
اذن العقل هو من يحدد الوسطية في الأمور.
ولهذا للعقل جنود وأعداء، فأعداءه ليسوا ضعفاء كما نعتقد بل يتميزون بالمكر والخداع والقوة إلاّ مارحم ربي وأولهم الشيطان والنفس الأمارة بالسوء والشهوات، أما جنوده فهم مخلصين له مادام يميل لهم ويستعين بهم وهم الايمان والارادة والعلم والمعرفة.
فالعقل لايستطيع لوحده أن يدير جميع الأمور دون أعوانه وإلّا انحرف عن الجادة السليمة وهو يعتقد إنه يُحسن صنعاً!.
فالعقل يحتاج إلى معرفة وإرادة لتهذيب وترويض أعداءه الذين لا تأخذهم عجز ولا كسل ولا استسلام بل هم دائماً في انتظار الفرصة المناسبة للمناورة والفوز، ومن أشد الاسلحة فتكاً
(الغرور)!.
ذلك الوباء الخطير الذي يدمر كيان العقل ويزلزل عروشه، لأنه ماكر من الدرجة الأولى ولا يمكن السيطرة عليه إذا ما اشتد عوده، ومن أهم موارد تغذيته هو (المدح).
قد يستغرب البعض ما العلاقة بين المدح والغرور والعقل؟
إن الله عز وجل ذم تلك العلاقة لما لها الأثر السلبي على كيان الانسان حيث قال عزوجل [فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ]١، والمقصود بالتزكية هو مدح الانسان نفسه والثناء عليها والتمنن بصالح الأعمال!.
فمن صفات المتقين ودلائل الإخلاص وعلامات المخلصين اتهامهم لأنفسهم بالتقصير في حق الله، وعدم القيام بالعبودية التامة لله عزوجل، بل مقتهم لأنفسهم ولاينسبون لهم أي فضل بأي عمل لأن كل الخير والمن والفضل من المتفضل المنعم جل جلاله.
وكذلك أهل البيت صلوات الله عليهم روي عنهم العشرات من الأحاديث التي تذم المدح سواء مدح الإنسان لنفسه أو لغيره، لما له من الأثر السيء.
فقد روي عن أمير المؤمنين الامام علي عليه السلام قال: [حب الاطراء والمدح من أوثق فرص الشيطان]٢. لأن النفس بطبيعة الحال تحب الكمال والمدح يغذي هذا النقص فيصبح دائم التعطش للثناء والمدح وهنا يستغل الشيطان تلك الثغرة ليبث سمومه ويحارب جنود العقل ليقلب الميزان لصالحه.
ولكن للأسف نرى تزيين وتزييف وتلوين ذلك العمل ليكون ذو وجه مختلف مقبول ليخدع الكثير بما يسمى بـ (المجاملة الاجتماعية)، للوصول إلى أغراض ومصالح خاصة تخدم الشخص نفسه دون غيره ولو على حساب ظلم الجميع، فنجد المتملقين والمنافقين هم في المراتب الأولى في استخدام هذا السلاح ويحيطون بالضحية يغذونه بمديحهم ليكون دائماً تحت قبضتهم أو لدفع الأذى من غضبه وسلطته.
و(الغرور) لا يختص بفئة معينة من الناس بل الكل على حد سواء في جميع المجالات والعلاقات الاجتماعية، فالجميع معرض للسقوط في شباكه، ومن أشد النوائب عندما يصاب
"رجل الدين" بهذا الداء وتكون الطامة الكبرى عندما يعتقد ذلك الشخص أنه يتربع على عرش التواضع والتكامل وأن جميع من حوله حاسدون حاقدون كارهين له ولما توصل إليه أو لمكانته أو لما يحمل من علوم!.
ومن أعراض ذلك الداء ولو حاول صاحبه إخفاءه أو الاعتقاد بأنه انسان سوي متواضع لكنه تطفو للعلن عدة أمور..
- التناقض الواضح بين أقواله وأفعاله فحديثه المقنع الساحر يناقض كلياً أفعاله الرديئة التي لا يستطيع السيطرة عليها لأنها ذاته الحقيقية ولو كان لا يعلم بذلك.
- السخرية من الغير بأي طريقة ولو من باب المزح وذمهم.
- مهاجمة وتجريح الآخرين وتبرير ذلك بأنها صراحة أو لتقديم نصيحة.
- المراء (وهو يختلف عن الجدال، فهو الطعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه، من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير واظهار النفس).
- مدح الشخص لنفسه ولأعماله وعلاقاته عن طريق سرد الأحداث لإيصال المعلومة للطرف الثاني بمكانته الاجتماعية بشكل غير مباشر.
- الحديث الدائم والمتكرر عن أعداءه ومحاولة تحطيمه واظهار حالة تعرضه للخيانة وغيرها من الأمور السلبية.
- الخوف الدائم من سلب مكانته بين الناس لذلك تراه حذرا في توطيد العلاقات مع أي شخص إلاّ اذا كان من المتملقين.
- لا يعتذر وكثير المراوغة ويرفض الاعتراف بالحق ولو حاصرته الأدلة لأنه يعتبر ذلك اهانة له.
وهناك العديد منها، وتجد ذلك الشخص دائماً محاطا بمجموعة من المتملقين الذين يغذون ذلك الوباء بالمدح المذموم المستمر فهو يستمد قوته منهم.
الغرور مرض وصفة رديئة وهو من مساوئ الأخلاق بل أرذلها التي أفرد لها العلماء مساحات شاسعة في كتبهم الأخلاقية تحذيراً وإرشاداً وتبصيراً لسبل العلاج منها لو أصابت النفس لأنها تذهب بالعقل والرزانة والعدالة وتجلب العداوة والبغضاء بين الأفراد وتفتح أبوابا لباقي الرذائل ولكن "المدح" أذم منه لأنه هو العلّة الرئيسية لتعرض الآخرين لذلك المرض.
وأفضل علاج هو تحقير الذات والاعتراف بالتقصير المستمر وعدم الاستمتاع بالمدح، وكذلك عدم الغضب من الذم.
فقد وصف أمير المؤمنين (ع) صفات العباد المتقين حيث قال: [إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَرَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ]٣.
وكذلك الإكثار من الدعاء والتضرع لله من الوقوع في ذلك البلاء والمداومة على دعاء الامام السجاد عليه السلام (دعاء مكارم الأخلاق) والتمعن والتدبر بتلك الكلمات القدسية الرفيعة.
وفي الختام لنضع نصب أعيننا كلمات الامام: [اللهم لا تَبْتَلِيَنِي بِالكِبْرِ وَعَبِّدْنِي لَكَ وَلاتُفْسِدْ عِبادَتِي بِالعُجْبِ وَأَجْرِ لِلْناسِ عَلى يَدَيَّ الخَيْرَ وَلا تَمْحَقْهُ بِالمَنِّ وَهَبْ لِي مَعالِي الاَخْلاقِ وَاعْصِمْنِي مِنَ الفَخْرِ اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَلا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إِلا حطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَها وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّا ظاهِرا إِلا أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً باطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِها]٤.
اضافةتعليق
التعليقات