مُحيت آية الليل فأُطبقت ظلماتها قطعا سوداء بعضها فوق بعض.. وجُعل النهار آية مبصرة، تُرسل ضوؤها شعاعا سرمديا لمن يبتغي الرؤيا ببصيرة انسان.
هي الدنيا هكذا وستبقى هكذا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، بقوة مالك الملك ديان الدين.
وهذه العوالم الكونية التي نبصرها عند اشراقة كل فجر.. وعوالم أخرى قد لا تصلها أفهامنا ولا تدركها أبصارنا ولا تحيطها عقولنا هي دلائل الخلّاق وأسرار صنعته العجيبة.
من منا ياترى تفكر في خلق الله حتى صار مأخوذا لبّه بما يلمس من عجائب وبدائع؟!
أحد الفلاسفة الملحدين وهو انتوني فلو أستاذ الفلسفة البريطاني والذي اشتهر بكتاباته في فلسفة الأديان والالحاد قاده تفكيره في الكون إلى الاهتداء برب الكون فيقول:
((بالرغم من أنني كنت من قبل من المعترضين بشدة على أن دقة التصميم تشير إلى وجود الإله، فإن إعادة النظر في البرهان أي برهان التصميم وفي أسلوب الاستدلال الفلسفي به، أوصلني إلى الاقرار بوجود إله حكيم خالق.. ولا شك أن ما كشفه العلم الحديث من معلومات هائلة في مجال قوانين الطبيعة ونشأة الكون وكذلك نشأة الحياة وتنوع الكائنات الحية، قد أمد هذا البرهان بالكثير من الأدلة التي أعانتني كثيرا في الوصول إلى هذا الاستنتاج))(*).
ومن منا أعمل فكره في ملكوت الله اللامتناهي حتى أضحى خلقا متضائلا، وريشة مهملة لا يُعبأ لها في يوم عاصف؟!
عجيب أمر البشر!!
لماذا هو بعيد هكذا؟ لماذا لا يعيد النظر ليرى أين تنتهي الآمال..؟
جميل أن يتفكر الانسان في ملكوت الله.. إلا أن الأجمل أن يرى آيات الله في نفسه أولا.
((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)).
قوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم أي علامات وحدانيتنا وقدرتنا في هذا الكون الفسيح... هذه القدرة الالهية لا تتجزأ فهي واحدة.. قدرة لامتناهية خلّاقة تفيض في الخلق عطاءً وخيرا يعم كل الموجودات على اختلاف أصنافها.
وإن اللَّه تعالى هو الذي أوجد الحياة.. خلق الخلق ونظّم القوى الروحية في الإنسان إبتداءً من الحواس الظاهرية وهي مقدمة الإدراكات الروحية وانتهاءً بقوة التفكير، الحافظة، التخيل، الإدراك، الابتكار، الإرادة والتصميم (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا).
بعد ذلك علّمهُ طرق الهداية بعد أن نظّم له هذه القوى (فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْوَاهَا).
مع أنّ القوى الروحية للإنسان متنوعة وكثيرة، ولكن القرآن هنا ركّز على مسألة (إلهام الفجور والتقوى) أي: (إدراك الحسن والقبح) لأنّ هذه المسألة لها تأثير كبير جدّاً في مصير الإنسان وسعادته وشقائه.
وقدرة التمييز التي اعطيت للانسان بين الحسن والقبح هي البوصلة التي تمكنه من الوصول إلى احراز الاختيار المطلوب.
فكل حسن هو جميل ومرغوب، وكل قبيح مستهجن ومرفوض.
إلا أن الأساس هي الفطرة السليمة، والتي لا يمكن إقتلاعها من النفس البشرية، ولذا لا يخلو الانسان من الخير مهما بلغ طغيانه. وفي داخل النفس البشرية يعلم الانسان بالفطرة الخير من الشّر، مهما تعلل وقام بالتبرير. لو تكلم مع نفسه وسألها: هل يرضى لنفسه هذا الظلم الذي يفعله بالآخرين مثلا؟ يقول تعالى: (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ) إي إن الانسان شهيد على نفسه.. عالم ومدرك بما يفعله.
ولنقس على ذلك كل مفردات الأخلاق الأخرى.. فالصدق والأمانة وحب الخير والوفاء والانصاف والعدل والرحمة والكرم والنجابة والتواضع والعطف وإلى آخره في قائمة الحسنى المرغوبة.. أما نقيضها فهي في قائمة السوء والفحشاء المنهي عنها.
فإذا أراد الانسان أن يعيش انسانا بحق، ما عليه سوى أن يمارس انسانيته وفق الفطرة السليمة التي أنشأها الله عليها، وبملكة الاختيار التي أعطيت له بين الصالح والطالح.
فليس مطلوبا منك أيها الانسان، أن تصعد إلى القمر والمريخ أو تعبر البحار السبعة أو تعلو قمة ايفرست كي تعلن عن ذاتك.. بل مطلوب منك أن تكون انسانا فحسب، فهل انت إنسان؟!
______________
اضافةتعليق
التعليقات