ارتبط شهر رمضان المبارك بطقوس خاصة تطورت على مر العصور وبهذا اكتسب قيمة روحية خالصة, وهذه الرابطة ذات المعاني تطورت واتخذت لها طقس خاص عند العراقيين فأصبحت كالواجب في شهر رمضان يؤديها الصائمون مثل التجمع لختم القرآن الكريم, وتوزيع الأطعمة على الجيران فإن لهذه الشعائر والعادات دلالة تعبدية تشعر الصائم بمعنى التآزر والوئام بينهم وتنهض التقارب بين الناس إذ تربطهم اجتماعيا, وتزيد من ولائهم لدينهم ولبعضهم.. إلا إن عصر التقدم الحضاري أبعد الكثير من هذه العادات الأزلية ليحل محلها إيقاعات جديدة غيرت من الطقوس الرمضانية..
(بشرى حياة) أجرت هذه الجولة الاستطلاعية حول طقوس رمضان التي استحدثت مع الحداثة..
تغيير الموازين
تغيرت الموازين بين الأمس واليوم فلم يعد شيئا كالسابق.. بهذه الجملة استهلت الحاجة أم أيوب حديثها ثم استرسلت قائلة: "إنني أذكر بوضوح رمضانات صمتها عند أهلي في صباي الباكر، أول عهدي بالصيام, كنا عائلة كبيرة أفرادها كلهم أحياء, الجدود والآباء والأعمام والأخوال وأبناء العمومة والاخوال, كـانت دورنا تقوم على هيئة مربع، وفي الوسط باحة واسعة فيها رقعة رملية نجتمع فيها للإفطار نتولى انا واختاي الصغيرتان أمر تنظيفها وفرش الحصر عليها، وقبيل المغيب نجيء بسفر الطعام من البيوت، ونجلس مع كبارنا ننتظر تلك اللحظة الرائعة حين يؤذن مؤذن المحلة من على المئذنة في بداية زقاقنا الضيق (الله أكبر) معلناً نهاية اليوم".
وواصلت ذكرياتها بحفاوة قائلة: "وأذكر جيداً طعم التمر الرطب، وهو أول ما نفطر به، حينما كان يوافق رمضان موسم طلوع الرطب فكانت لنا نخلات في بستاننا الواسع، لها ثمر شديد الحلاوة، فيقضي والدي وقته كله للاعتناء بهن ليجني ثمره ويدخره لمثل تلك المواسم وقد زرعت أصلاً من أجل ذلك, اما السفرة الرمضانية فلا تخلو من الأكلات التي تعتاد والدتي صنعها في رمضان على الرغم من تكرار بعض أطباقها كل يوم إلا انها تتمتع بمذاق خاص تجعل الجميع يتسابق للحصول عليها من يد جدتي التي تسكبه لنا واحدا تلو الآخر, ولا أنسى أيضا جمعات الأصدقاء والجيران والجلسات الرمضانية الخالية من قسوة القلب وتبلد المشاعر".
وتابعت: "في الوقت الحاضر تغير كل شيء, أصبحت جدة ولا أرى أولادي وأحفادي إلا صدفة على الرغم من إننا نسكن في نفس المنزل, فقد تغيرت باحة البيت الان بغرف كثيرة تغلق أبوابها لينشغل ساكنيها بالتلفاز أو أجهزة الهاتف المحمول، كل احد يقطن مع نفسه في عالمه الافتراضي بعيدا عن الواقع الذي يجمعنا, إنني افتقد تلك الطيبة والعفوية فكم كان لرمضان خاصيته وطقوسه وكم زرع فينا شعور الإحساس بالغير".
ختمت حديثها: "وبرغم كل هذه الحداثة إلا إن رمضان ما زال يملك صفاته بالكرم والمحبة والغفران, ونحن من غيّرنا كل العادات بما تقتضي مصلحتنا".
الصيام درس تربوي وحنان أبوي
وفي السياق ذاته حدثتنا أم إيهاب قائلة: "ان الصيام درس تربوي وحنان ابوي, اذكر في السنين الأولى من عمري وتحديدا في عمر ست سنوات عرفت لأول مرة ماهو شهر رمضان حين رأيت أبي وأمي يتهيآن لهذا الشهر الفضيل ولكن ليس استعدادا بتكديس الأكل وما يخص الفطور والسحور بل استعدادا روحيا، كنت اسمع والدي يقول لأمي بعد ايام سيهل الشهر الفضيل ويطرق بابنا ضيف من نوع آخر اذ يدخل معه السرور والخير والبركة، يختبر الله فيه أرواحنا وجوارحنا ورغم القيظ وسخونة الجو فإنهم يستقبلان الشهر بفرح, ويحضرون له باندفاع ويلتزمون بشعائره من صيام وصلاة وتلاوة القرآن وكانا يساوونا بأنفسهم لأننا نصوم مثلهم, ثم يأخذون في الحديث ونحن نسمع ولا نتكلم، كانت تدور أحاديثهم عن آبائهم وأجدادهم، حديثاً مليئاً بالمحبة والحكمة والطمأنينة، كان رمضان يخرج منهم كنوزاً دفينة".
وأضافت: " إن ما أراه في رمضانيات السنين الأخيرة تغير فيها كل شيء فأصبحت تلك الطقوس شبة معدومة إضافةً إلى ما اندثر منها فكثير من العوائل غاب عنها الجو الرمضاني فيتهاونون بصيامه وقيامه ناهيك عن اتخاذه وقتا لصنع أشهى الأطباق ومشاهدة أحدث البرامج التلفزيونية متناسين القيمة الروحية وما يحمله في طياته من قدسية وكل هذه الأمور تنعكس سلبا على جميع أفراد العائلة وخصوصا الأطفال فنجدهم على غير دراية بأهمية الشهر الفضيل وامتناعهم عن الصيام حتى عند وصولهم لسن التكليف وذلك لأن الطفل يمتاز بحب التقليد والمحاكاة لتحركات والديه وتصرفاتهما، لذا علينا ان نتحمل المسؤولية الأولى عن تصرفات أولادنا في الصغر، مثلما نتحمل المسؤولية عن التربية والإعداد والتثقيف والتوجيه لما يحبه الله ويرضاه".
وتابعت قائلة: "رغم تلاشي الكثير من الطقوس الرمضانية إلا إنني افتقد كثيرا صحن الجار أو عادةَ التعاون فكانت حلقة وصل بين بيوت الحي، لا يكاد يغادر مائدة من موائد الجيران، من أوّل ناصية في الشارع حتى نهايته، عادات زَرعتْ فينا حبّ الرَّحمة وتقديم يد العون، فإنها لم تكن مجرد عادة، وإنما تكافؤٌ بين العوائل، وعندما ندقق في بعض عادات ذلك الزمن نجد أجوبةً لاستفهاماتنا، لماذا غدا حالنا اليوم بهذه القسوة؟!
فنجد أن عفوية وفطرة أجدادنا هي أحد أسباب البركة والرحمة الكبيرة التي نفتقدها اليوم ثم ختمت قائلة: إن أيام التي مضت لن تعود فالقلوب ليست هي ذاتها، والعادات اندثرت في داخلنا قبل التاريخ، وقسوة الأحداث وتراكماتها زادتنا ضجرًا وشعورا باللامبالاة، فكل ما تبقى من ليالي رمضان ذكريات تصدع قلوبنا".
كرنفال اجتماعي
أن تكون في العراق وتعيش رمضان الخمسين أو أكثر، فذلك يعني أنك لا تزال مسكونا بالحنين إلى رمضان أيام زمان، حيث ليل المدينة لا ينام إلا بعد أن تتناول سحورها, هذا ما قاله الحاج ابو سجاد 72 عاما وهو يستذكر أيامه الرمضانية قائلا: "عادات رمضانية قليلة لا تزال على قيد الحياة فشهر رمضان إضافة إلى كونه شهرا للعبادة، فهو يعتبر "كرنفالا اجتماعيا" له طقوسه التي لا تنسى مع مرور الزمن, فكنت في السنين الماضية عند قدوم شهر رمضان أبدأ بتجهيز بضاعة متجري الصغير بزينة رمضان من الفوانيس الرمضانية والأضواء والمصابيح لكن اليوم أرى شوارع محلتي تفتقر من الزينة والأضواء الرمضانية, ففي الماضي كان الإقبال واسعا لشراء زينة رمضان من أجل ان تزيين الشوارع بها كاستعداد لحلول الشهر الفضيل".
وأضاف: "لقد أصبحت الأزقة اليوم موحشة فبعد الإفطار كانت مليئة بجلسات الأصدقاء ولاعبي (المحيبس)، حيث الأسواق كانت تزدحم ليلا بنكهة الكنافة والحلويات والمعجنات وصخب المقاهي و أخيرا، بصوت المسحراتي: يا نايم .. وحد الدايم.. سحور.. سحور.. اكعد يا صايم.. وهي المهمة التي كان يتطوع لها ابو طبيلة والتي عزف عنها في السنوات الأخيرة لبعض المناطق لأن الصائمين استعاضوا عنه بالهواتف النقالة, وعلى الرغم من أن شهر رمضان المبارك يفتقر للكثير من الطقوس والعادات وذكريات الزمن الجميل، زمن الأصالة، زمن الأجداد إلا اذا انقضى يوما منه، يحس الصائم أنه قد قطع شوطاً مهماً في رحلة حياته, وإذا انقضى الشهر بطوله، يشعر حقاً أنه يودع ضيفاً عزيزاً طيب الصحبة".
النواة الأصيلة
وحول هذا الموضوع شاركنا الشيخ كاظم العابدي قائلا: "من الطبيعي أن تتغير طقوس رمضان فلكل وقت عاداته, ما زال الكثير يزاول الطقوس الرمضانية إلا إنها بإيقاعات جديدة وذلك يعود لتأثر الأبناء بالمحيط الذي يتعايشوه وسط الكم الهائل للاكتساح التكنولوجي الذي نقبع به".
وأضاف: "ولا استطيع أن أنكر الخوف الذي يعتريني من المرتقب من هذا الاكتساح, إلا إن النواة الأصيلة لعاداتنا الرمضانية تنبثق من رحم الآباء والأمهات فهم المدرسة الأولى لزرع هذه القيم التي يمكن من خلال تلقينها لأبنائهم ليتوارثها أبنائهم أيضا, وبهذا لا تندثر عاداتنا الرمضانية لتعيش بأمجادها وأصالتها من جيل إلى جيل, وكل عام ورمضان كريم وأعاده الله علينا باليمن والبركة والخير".
اضافةتعليق
التعليقات