كنت جالسة أمام الضريح وأدندن بكلمات مناجية بها ربي وامامي المهدي (عجل الله فرجه الشريف)، وإذا بصوت ولد لفت انتباهي، وهو يقول: «ماما أنا ضايج».
كرر كلامه عدة مرات، فإذا بالأم وبسكينة وجهها التي لامثيل لها، وكأنّ زن ولدها لايزعجها أبداً، قرّبت رأسها إلى ولدها قائلة: «ولدي لما لا تسبح كما كانت تسبح مولاتنا فاطمة الزهراء(عليها السلام)؟»
قال: «ليس عندي سبحة».
قالت: «لابأس اذهب إلى تلك مكتبة القرآن أمامنا وخذ منها مسبحة بأي لون تحب.»
انفرجت أسارير وجهه، كأن الفكرة أعجبته، قام بنشاط وذهب إلى المكتبة حيث أخذ ينظر إلى المسبحات واختار لونها باشتياق واحتياط كأنه يريد أن يبتاع أحدها، أخذ واحدة وأتى إلى والدته وقال بفرح: «ماما أنظري إلى لون هذه المسبحة إنها حمراء.»
قالت الأم مبتسمة بنفس الهدوء: «كم هو جميل لونها».
ثم قال الولد: «ماما ماذا أقول الآن؟»
قالت الأم: «حبيبي قل (الله أكبر) إلى هذه الخرزة الوسطية التي لونها يختلف وأخبرني.»
بعد برهة من الزمن قال الولد: «ماما أكملت، الآن ماذا أقول؟»
قالت الأم: «قل (الحمدلله) إلى الخرزة الثانية المختلفة لونها.»
ثوانٍ قليلة وقال الولد: «ماما أكملت.»
قالت: «الآن بقي عليك فقط أن تقول (سبحان الله) إلى نهاية الخرز حتى تكتمل سبحة الزهراء (سلام الله عليها).»
أكمل الولد وأعلن ذلك لأمه بفرح وكأنه قد أنجز انجازاً عظيماً، وأخذت الأم تشجعه وتحفزه على انجازه كأنما قام بأمر عظيم.
وأنا أشاهد هذا المشهد صرت أفكر: وماذا يفهم ولد ذو أربع سنوات من التسبيح؟ ألا يجب أن يستحضر الانسان قلبه وعقله عندما يقول الذكر؟
في أحد الأيام بينما كنت أقرأ كتابا رأيت هذه الرواية أنه يقول أبو هارون المكفوف عن الامام الصاىق (عليه السلام): «يَا أَبَا هَارُونَ إِنَّا نَأْمُرُ صِبْيَانَنَا بِتَسْبِيحِ فَاطِمَةَ (سلام الله عليها) كَمَا نَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ فَالْزَمْهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ عَبْدٌ فَشَقِيَ.»[1]
إذاً تسبيح فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) ليس فقط أذكار فحسب بل هو طريق تربوي موجود في سيرة أهل البيت (عليهم السلام) وأمرونا بها.
إنّ الله سبحانه وتعالى بعث النبي (صلى الله عليه وآله) وأرسل معه دين الاسلام الذي هو منهج للعيش والحياة، وذكر لنا بعض الأساليب التربوية للأولاد عبر القرآن الكريم والروايات الشريفة، ولأنّ مصدرها هو الغيب والوحي فإنه لامحالة سوف يعطي النتيجة المطلوبة في التربية.
ثانياً: تغطي آثاره جميع الأبعاد الوجودية للانسان كالجسمية والروحية والمعنوية والاجتماعية.
ثالثاً: يكون رضى الله سبحانه في ذلك فتكون البركة والرحمة فيه، ومنها هذه الرواية التي بها أمر صريح لحثً الأولاد على تسبيح فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، فما هو الأثر التربوي لهذه السبحة المباركة؟ وكيف ستضمن تربية صالحة وضمان لصلاح الأولاد في مستقبلهم؟
التمعّن والتدبّر الدقيق في الرواية وكلماتها سيساعدنا للوصول إلى الجواب المطلوب:
أولا: الأمر في الرواية متوجه إلى (صبياننا)، مرحلة الصبى تطلق على أي مرحلة من عمر الانسان؟ تقول معاجم اللغة أنه الصبي يطلق على مرحلة من السنين فيها ضعف وانخفاض طبيعيّ وتمايل إلى غير ما يليق ويناسب له من اللغو واللهو واللعب.[2] إذاً يطلق هذا اللفظ على الطفل منذ ولادته إلى أن يصل إلى سن المراهقة، تقول الآية الكريمة أن النبي يحيى (على نبينا وآله وعليه السلام) بعث للنبوة في الصغر وهو لديه سبع سنوات من العمر-كما في الرواية-: «يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا»[3].
مرحلة الصبى تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: (من الصفر إلى سنتان) ففي هذه المرحلة الطفل لايفهم كلام الوالدين وربما لايتجاوب مع معنى كلام الوالدين ولكنه يسجل المعلومات التي يتلقاها منهم، فيستطيع الوالدين ترديد السبحة بصورة مستمرة للتأثير المعنوي على نفسية الطفل أو لاستقرار الأذكار كمعلومات في لا وعيه.
القسم الثاني: (من ثلاث سنوات إلى المراهقة) ففي هذه المرحلة يتطور فهم المعلومات لدى الطفل ويستطيع فهم الأوامر واطاعتها، فهي أفضل مرحلة يمكن أن يستغلها الوالدين لاستعمال الحث على تسبيح الزهراء (عليها السلام) وتعليمهم ذلك.
ثانياً: لماذا الصبي وليس الكبير؟ أليس فعل الكبير أفضل لأنه يكون مع عقل ودراية أكثر؟ هناك روايات في تسبيح فاطمة (سلام الله عليها) مطلقة وتشمل الكبار أيضا، فهي فضيلة وعمل كبير لكلا الفئتين، ولكن هذه الرواية ذكرت الأطفال بصورة خاصة، وربما يعود ذلك لآلية العقل لدى الانسان، فهو ينقسم إلى قسمين:
1-الوعي (conscious) وهو فهم الانسان الذي يتحكّم بكلّ أفعالنا الواعية وتصرفاتنا وأحاديثنا.
2-اللاوعي(unconscious) ويعرف على أنه العقل الباطن عند الانسان، فهو يتضمن معلومات لا يدركها بفعالية في الوقت الحالي، ولكن قد تؤثر عليه مع ذلك؛ كالأشياء التي يتم سماعها، أو رؤيتها، أو تذكرها فهمهمة العقل الباطن تكمن في تخزين كل ما يهم الإنسان مثل الذكريات، والدوافع، والمعلومات، حيث لا يستطيع الإنسان التأمل في العمليات التي تحدث داخل هذا العقل، فهي عمليات تلقائية، وغير قابلة للتأمل.
وعقل الانسان يشبه الجبل الجليدي فقسم صغير منه يظهر ما فوق الماء وهو الوعي، وما لانراه وهو القسم الأكبر هو تحت الماء الذي يكون اللاوعي، فما مر علينا منذ صغرنا إلى الآن، ومانراه في كل لحظة وكل الكتب التي قرأناها والأفلام التي رأيناها والأصوات التي سمعناها كلها لم تمح بل خزنت في اللاوعي، فلذا في بعض الأوقات نذكر خاطرة معينة أو نذكر بيت شعر خاص كنا قد نسيناه قبل ذلك فإن هذه المعلومات نقلت من اللاوعي إلى الوعي لأسباب خاصة غير واعية أو لشعور خاص مشترك كان يحاط بتلك الخاطرة أو ذلك الشعر.
أما الأطفال فعندما يولدون فكل عقلهم يكون بصورة لا واعية فلذا نحن لا نذكر شيء من طفولتنا، أما بعد ثلاث سنوات فالضمير الواعي يتشكل شيئاً فشيئاً فأكثرنا نرى أن أقدم ذكرياتنا تعود إلى الثلاث سنوات فما بعده، فكلما مضى عمر الطفل إلى الأمام سيكون وعيه أقوى.
ولكن شاهد المقال أنّ اللاوعي في الطفولة يكون أثره قوي جداً على الوعي في الكبر، فالأشخاص الذين عاشوا حرب عنيفة في الصغر أو تعرضوا لاعتداء جنسي فنرى أنهم يعانون من قلق دائم أو كوابيس ليلية مؤلمة في حيث أننا لو سألناهم عن تجربتهم لا يذكرون تفاصيل القضية المؤذية التي عاشوها وهذا يبين الأثر الكبير للمعلومات التي يتلقاها الأطفال في الصغر وكم أثرها يكون كبيراً على حياتهم، فتصوروا كم سيكون هذا الأثر كبيراً لو كانت المعلومات إيجابية؟! وكم سيكون هذا الأثر عظيماً على شخصية الطفل في المستقبل لو كانت المعلومات يكون محورها توحيد الله سبحانه وتعالى كتسبيح فاطمة (سلام الله عليها)؟!
ثالثاً: ملازمة تسبيح فاطمة (سلام الله عليها): التعبير الذي استخدم في الرواية هو الملازمة، تارة الانسان يفعل شيئاً ما وتارة يكون ملزماً به وهناك فرق شاسع بينهما. يقول ابن فارس أنّ الالزام يدلُّ على مصاحَبة الشَّيء بالشىء دائماً.[4] ويقول الطريحي أن لَزِمَ الشيء يعني ثبت و دام.[5] ويلاحظ في التلازم المؤانسة و المرافقة.[6] وهذا يعني أنه ليس فقط المطلوب الاتيان بتسبيح فاطمة في بعض الأوقات ولكن المطلوب هو أن يقوم بها الانسان على الدوام حتى يكون مصاحباً لها في كل الأوقات وأن يأنس بها، ويكون عمل ثابت ودائم في حياته وحياة طفله.
رابعاً: السعادة: هي المفتاح التي يبحث الناس عنها في كل مكان ولكننا يمكننا أن نجدها في أشياء صغيرة ظاهرياً، صرّح الامام (عليه السلام) الشقاء لمن لم يلزم تسبيح فاطمة (سلام الله عليها)، والشقاء هو ضد السعادة.
لا أعلم كيف ستوصل السبحة بنا إلى السعادة؟ هل هو تاثير الذكر على قلوبنا وعقولنا؟ أم سيرينا الطريق الصحيح والهداية بصورة غير مباشرة؟ أم أن اتصالنا بالصديقة الطاهرة (سلام الله عليها) له أثر وضعي على أرواحنا؟ لا أعلم كل ذلك ممكن ولكن الذي أعلمه هو أنه اطاعة كلام المعصوم (عليه السلام) والإلتزام بها تضمن السعادة لنا ولأولادنا.
هذه بعض الآثار التربوية لتسبيح الزهراء (سلام الله عليها) على الأطفال وسنبحث في مقال آخر بعض الآثار التربوية أخرى لهذه السبحة المباركة.
اضافةتعليق
التعليقات