طرق الباب وارتفع صوت الرصاص, كسر الباب، هو لم يطرق لكننا اعتدنا على ان نلفظ هذه الكلمة، تناسيت اننا في جوف الغرابة, سحبوا ابي وصرخ الطفل في حجر امي واجتمعت شهقاتها المتتالية في اذني, لا أعلم ماجرى بعدها لكنني اسيرة، تحول كل شيء الى عدم انا والجسد والدم، كلنا اصبحنا بلا معنى فكلما زاد الشيء قل بريقه والدم اضحى بحور دم وفقد هيبته فلم نعد نفزع حين نراه, كنت اعتقد أن الشعورَ الذي انطفأ في المرةِ الأولى لا يحيا بذاتِ اللهفة ولاالعزيمة ولا ذات الكمال، مبتورٌ إلى حد ما الى حد التشويه، إلى حد أن نشعرَ بفقده وندرك أننا لن نعيشه ثانية واستحالة عيشه الى شيء اشبه بالمعجزة الى حد انني بت ابتسم حين احلم بشيء وانطق يال سخافتي ماهذه الاحلام هي استحالة..
مرت شهور تلتها ايام طوال وطرقت الابواب مرة اخرى وارتفعت صرخات تنادي: المدينة تحررت.. كنت اقرأ هذه الكلمات بكتبي لكنني بت ابصرها اليوم لأن كتبي ضاعت بأعماق لسان القبح الذي كان يخطب جورا ويهتك حلما ويقتل طفلا ويدعي سلاما..
ابصرت ذاتي والشارع، بتنا متشابهان كثيرا بل بت كذات الوحل المتعب من عجلات السيارات المارة دون الانتباه له وهو تتقطع احشائه, الحديقة التي على يميني ذبلت ومعها زهرة عمري قطعت, نصف غادر ونصف بقى والاغلبية قتلت, والدي، امي كل من لي اصبح عدما، مضوا جميعهم تاركين لي ذنبا اتشح بالخرس, عدت اكابر، عدت للباب الذي كسر، رفعت بقية الزجاج المكسر، نفضت السجادة على الارض ورميت الماء فوق كل شيء وكل المنظفات لكن مازالت رائحة كريهة لاتغادر, رائحة كالوشم التصقت بكل شيء.
رنّ المنبه، انها الساعة الثانية والنصف وبدأ كل شيء يعود امام ناظري، انها المسرحية التي اراها يوميا بعد تلك الحادثة رغم ان المدينة تحررت لكنني مازلت ارى القاتلين في كل مكان والفرق واحد انهم لايكسرون الباب لكنهم يكسرون ارواح واحلام.. والغريب اني عدت اخشى الدم رغم ظني انني لن اضعف امامه, اغلقت مذكرتي مرة اخرى ووضعتها على ذات الرف المغبر في الزاوية ونمت بعد ان بلغت الساعة الرابعة فالليل ماعاد يحتضنني وارى النهار يبعث لي بعض الاطمئنان..
قيم واخلاق، ومشاعر حب وكراهية واحقاد وحسد كل شيء يروي قصة وكل امة سجلت بصمة، احيانا حين ننظر لتاريخ الامم نجد بعضها كجنين مازال ينبض في بطن امه وبعضها نجاح وفشل، والبعض تاريخ موت علق فوق اسمها, الامم كالافراد تماما منهم من يكتسب الخلود ومنهم يمر كمرور العابرين لايكاد يذكر وكأنه نسيا منسيا!.
لذلك اصعب رؤيا هي رؤية الانتماء، كنت سابقا افتخر لكوني ابنة هذا البلد واروي للغريب عن كل زهر وعشق وآذان رفع فيه, كتبا وحبرا وشعرا وثقافة ورمز وشم شرف الانتماء اليه لكن اليوم بمجرد ان تقول اسمه تجد الاشخاص اقشعرت ابدانها والخوف بدأ يبان على الشفاه وهي ترجف ثم اتسائل..
كم من أمة تمتلك انتسابا وكم من امة ولدت فجأة في تراكيب مختلفة وغالبا ماتكون مصطنعة خالية من كل اسباب الخلود فتأتي وتضمحل وتندثر ولايمكن للتاريخ إلا ان يسجلها زائرا لاتتعدى سطرا من الكتابة ليس إلا ولكن جميعها ستكون لها مقدمة وعنوان..
فما عنوان بلادي ياترى?
بلاد الموت ام بلاد الرافدين, بغداد السلام او بغداد الدماء ام بلاد المناصب بعد ان كانت بلاد الثقافة فتجد كل من تقدم بأسم الخدمة اصبح وحشا مستيقظا ليل نهار لايود ان تنتهي الخدمة قبل ان يشبع مطامعه متناسيا ان الماء ان طفى بالجسد يميت صاحبه..
لكن مازال هناك امل، مازال هناك متسع لنغير شيء يستحق التغيير, يقول الله تعالى: "..إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم وإذا أراد الله بقومٍ سوءً فلا مرد له ومالهم من دونه من والٍ".
إن لله تعالى سنناً لاتتغير وقوانين لاتتبدل: سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
وهذه سنة وقاعدة اجتماعية سنها الله تعالى ليسير عليها الكون وتنتظم عليها أسس البنيان: إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم، أي أن الله تبارك وتعالى إذا أنعم على قوم بالأمن والعزة والرزق والتمكين في الأرض فإنه سبحانه وتعالى لايزيل نعمه عنهم ولايسلبهم إياها إلا إذا بدلوا أحوالهم وكفروا بأنعم الله ونقضوا عهده وارتكبوا ماحرم عليهم. هذا عهد الله ومن أوفى بعهده من الله؟ فإذا فعلوا ذلك لم يكن لهم عند الله عهد ولا ميثاق فجرت عليهم سنة الله التي لاتتغير ولاتتبدل فإذا بالأمن يتحول إلى خوف والغنى يتبدل إلى فقر والعزة تؤول إلى ذلةٍ والتمكين إلى هوان.
اذا كان الجواب هو نحن, نحن من نمجد اللئيم ونقتل الكريم. كما قال الشاعر محمود سامي البارودي..
اذ المرء لم يدفع يد الجور ان سطت
عليه فلا يأسف ان ضاع مجده
واقتل داء رؤية العين ظالما
يسئ ويتلى بالمحافل حمده
ومن المؤكد اننا نستطيع متى ماحررنا عقولنا من عبودية الجهل ورفعنا شعار الأمل فأمتنا تستحق وتستطيع، فأمتي هي امة عراقية لاتهزمها وعكة صحية صغيرة جراء بعض الفيروسات الضعيفة التي لاتمتلك سوى لسان مسموم...
اضافةتعليق
التعليقات