اتصلت الساعة الثامنة صباحا وقالت: اود ان اراكِ لنتحدث، فربما سأقرر لاحقا ترك كل شيء والعودة الى الديار، اشتقت لأمي كثيرا، سأراكِ بعد قليل، لا تخرجي من المنزل ..
اقلقني اتصالها ما بال سُمية اليوم؟ وما الذي جعلها تشتاق لأمها فجأة!! طُرقت الباب، فتحتها لأرى سُمية يُغلفها الحزن وقد تساقطت دموعها من عينين حمراوتين، احتضنتها لتهدأ ثم جلست وقالت:
بالامس ذهبت لزيارة عمتي المريضة زرتها آخر مرة قبل ما يُقارب الثلاثة اشهر وكانت حالتها سيئة للغاية فهي لا تستطيع فعل شيء بعدما اُصيبت بشلل نصفي وتصعب عليها الحركة لكني احسست بأنها تود قول شيء ما، كانت تفتح حدقة عينيها بقوة، بعنف بقهر، ثم بضعف واستسلام تُغلق جفنيها ببطئ وهي تتأوه بصوت مُنهك وحزين بعدما حُقنت بجرعةٍ مُسكنة من قبل الممرضة التي استأجروها لخدمتها فقد تَعذر الجميع عن الاعتناء بها واتفقوا على وضعها في ملحق القصر الكبير بحجة اراحتها وابعادها عن الضوضاء مع خادمة تفقه امور التمريض وتعتني بوضعها الخاص الذي جعل منها عبئاً يثقل كاهلهم..
كل مرةٍ اذهب لاطمئن عليها اجدها في حال اسوء مما كانت عليه، ما ان تراني تحاول الحِراك والتكلم دون جدوى، تتسارع انفاسها وتُحدق بي بنظرةٍ حادة تُشبه نظرة مقاتل يُصارع الموت بكل ما فيه من قوة لا يود الرحيل قبل ان ينتصر، كُنت اخاف النظر في عينيها الكبيرتين لِما اراه فيهما من غضب وبؤس وحسرة كأنها تود الانتقام لأمر ما، تُحرك شفتييها المائلتين نحو اليسار تفتح فمها وترفع لسانها الثقيل ثم تصك اسنانها بقوة وتصدر اصوات مخيفة وآهات صاخبة تُرعب من يزورها. وفي كل مرة تُسارع تِلك الممرضة بحقنها جُرعة مُسكنة في الوريد الذي ازرَق مكانه وبات ظاهرا لانها هَزُلت كثيراً وهكذا هو الحال منذ عامين، الى يوم امس اتصل ابي وقال: اذهبي لزيارة عَمتُك فقد سمعت بأنها ليست على ما يرام، انا مشغول الآن، سألحق بك فيما بعد..
تألمت كثيرا، وانا في الطريق اتذكر كيف كانت عمتي تحتضنني كإبنة لها، تكفلت رعايتي وتعليمي بكل حُب، فبعد ان اخترت السفر مع والدي وتَخليتُ عن امي التي طلبت منه الطلاق مع التنازل عن جميع حقوقها شرط ان يتركني واخوتي الثلاثة معها، تَوسلتني البقاء.. فَضّلتُ الرحيل مع ابي فأنا احبهُ كثيرا ولكنه لم يلبث لوقت طويل حتى تزوج ليتركني اغلب الاوقات برفقة عمتي، لطالما اخبرتني بأن امي تبعث لها بالرسائل كل فترة تسأل عني وتشتاق لرؤيتي لكني لم اكترث لأمرها قط .
وصلت لأرى الجميع حاضرون وكأنهم يترقبون رحيلها، اسرعت لاجلس الى جانبها، مسحت على رأسها برفق وقبلتها، ما ان رأتني تسارعت انفاسها، شَهقت وزَفَرت بقوة ثم أومأت برأسها لِتُخرج صوت خافت وكأنها تتكلم! اقتربت منها اكثر سمعتها تقول بصعوبة: ازيلي كمامة الاوكسجين، ثم حَركت اصابع يدها فانذهل الجميع مما رأوه وانا كذلك، بدأت تنظر الى من حولها وكأنها تبحث عن شخص ما! رَمقْتُ تلك الممرضة وهي تجهز حقنة المسكن بيدين مرتجفتين بدت مرتبكة جدا! انتفضت لاذهب واكلمها لكني احسست بعمتي وهي تشد على َيَدي بقوة!.
فقلت: يا إلهي عمتي تتحسن، ضَجت الغرفة بالكلام!! رفعت صوتي لاسكاتهم، اهدئوا رجاءً، امتلئت عيون عمتي بالدموع وامطرت، اقترب الجميع منها غير مصدقين! اشارت عليهم بالجلوس ثم بدأت تتكلم ليُنصت الجميع لحديثها المفاجئ، قالت بصوت متقطع: انا الام الحنونة العظيمة صاحبة المال والجاه و الاولاد الآمرة الناهية، انتكست حالتي الصحية لامر لا تعلمون عنه شيء لم تسألوا حتى لما اصبحت على هذا الحال؟ اسرعتم لتتخلصوا مني وكأني هَمٌ ثقيل اتعبكم حمله! اوَ لست انا السبب وبتوفيق من الله في ما انتم عليه الآن من حُسن الحال!.
ألم تفكروا بأني من الممكن ان اتحسن وأُشفى؟ الم تَرّق قلوبكم عليّ؟ ما الذي اقترفته بحقكم كي تهملوني وتلقون بي في هذه الغرفة الموحشة!! ربيتكم في حجري كالامراء، سهرت قاسيّت وفَنيت شبابي وعمري لأراكم تكبرون، لافتخر بكم واُسّر لنجاحكم واساندكم في كل وقت، اهكذا جزائي؟ أتعلمون عن حالي طوال الايام الماضية؟
قالتها وهي تتلعثم في اخراج الكلمات ثم تتدارك نفسها لتُكمِل حديثها بِحُزنِ وقهر لا يسعه العالم اجمع، شَهقت وأجهشت ببكاء تتفتت له الصخور، فأسرعت تلك الممرضة نحوها كالعادة لتُصعق بردة فعل عمتي وهي تمسك بيدها وتدفعها بقوة وتقول: لا سامحك الله ايتها اللئيمة اذهبي من هنا، ثم نَظرت اليّ وقالت متألمةً غارقةً في بحر من الدموع والحَسَرات: ابنتي سُمية هذه الممرضة كانت تسيء معاملتي كُل يوم، تُطعِمُني وتَسقيني الشراب بعنف ودون مبالاة، لا تأبه لوقت دوائي وكلما حاولت الحِراك او التحدث تقوم بزرقي جرعة منومة تُفقدني الوعي لفترات طويلة، استيقظ بعد سبات عميق وانا اشعر بالتعب والجوع لأراها تجلس خلف شاشة جهازها الالكتروني تتحدث وتقهقه بصوت مرتفع وما ان ناديتها تقوم بضربي وتصرخ في وجهي باشمئزاز، وعندما تُغير ملابسي تضغط عليّ بقوة وتدفعني لارتطم بكل شيء.
ستجدين آثار الكدمات في كل جسدي، كُنت اتألم كل يوم وانا اقاوِمها واحاول ان اُخبِر احَدكُم عن امرِها ولكن دون جدوى، فقررت الاستسلام على ان اطيعها ولا ازعجها كي تتحسن صحتي، بُت اسلم نفسي لها وكأني دُمية تتفقدني وقت ما تشاء حتى ارتاحت لهذا الوضع وامتنعت عن اعطائي جرعات منومة وانا انتظر الليل بفارغ الصبر كي تنام هيَّ لأتحرك انا واحاول التكلم بهدوء حتى استَعدتُ جزء من صحتي وقوتي، لَكم انتظرت هذا اليوم الذي اتحدث فيه عن ظُلمي وابثُ شكواي لربي ولكن ما الفائدة من ذلك..
لمن سأعيش ولأجل ماذا؟ اولادي وهم لايحتاجون اليّ بعد الآن تركوني اعاني بقسوة، بَكَت بِصوت عالٍ فالتفوا جميعهم حولها يُقبلون يديها وقدميها لتسامحهم، تسارعت نبضات قلبها وهي تنفض انفاسها الاخيرة وتقول: انا لستُ راضيةً عنكم الى يوم الدين ثم هدأت ليستقيم الخط على ذلك الجهاز ويُصفر معلناً نهاية شوط حياة عمتي بالخسارة لاولادها في الدنيا والآخرة..
كيف للاولاد ان يقسوا على والدتهم ولا يهتموا لامرها بعد ان كَبُرت ومَرِضت!! وهي التي حملتهم وتَحملت منهم الى آخر يوم في عمرها دون كلل او ملل؟
ان الله سبحانه وتعالى اوصى بالوالدين حيث قال: {وآخفُض لّهًمٌآ جُنآحً آلّذٍلّ مٌن آلّرحًمٌـٍة وقلّ رب آرحًمٌهًمٌآ گٍمٌآ ربيِآنيِ صِغٌيِرآ}، ان للابوين مكانة عظيمة عند الله فهم يصبرون على اذى ابنائهم ويعطفون عليهم حتى وان كانوا غير صالحين، فالولد العاق يبقى في قلب ابويه طفلا صغيرا يحتاج الرعاية الى ان ينهرهم ويتخلى عنهم فيغضبوا عليه ويا ويلهم من عذاب الله، قال النبي الاكرم (ص): من ارضى والديه فقد ارضى الله ومن اسخط والديه فقد اسخط الله.
ان الادوار تنعكس في هذه الحياة، فبعدما يبذل الوالدان جهدهما لتربية الابناء وهم اطفال يراقبوهم ويسعفوهم ويساندوهم الى ان يبلغوا اشدهم، فبعد ذلك الوقت يعود الآباء كالصغار يتهالكون ويتعبون لابسط الامور ويُصبِحوا بحاجةٍ للرعاية من قِبل اولادهم مثلما كانوا هم رعاة طيبون، وهنا يَمتَحن الله الابناء في بر الوالدين فان اهتموا برعايتهم وخافوا ربهم فيهم سيكسبون رضاهم ورضا الله ويُكتبون من البارين و يُحشرون مع الصالحين.
اضافةتعليق
التعليقات