كلما نما وعي الإنسان، ازداد بحثه عن القواسم المشتركة والمفاهيم الكبرى التي تجمعه بأخيه الإنسان، ذلك الشبيه في الخلق والمصير، مبتعدًا عن كل ما من شأنه أن يزرع التفرقة أو يضع الحواجز بينهما. وتظل الإنسانية هي الرابط الأسمى والأعمق، القادر على احتضان البشر على اختلاف أعراقهم ومعتقداتهم وانتماءاتهم. وليس في ذلك نفي للهويات الفرعية أو تهميشها، بل هو تجلٍّ لارتقاء فكري واجتماعي، يتطلع نحو أفق أوسع ووحدة أشمل.
ومن غير المنصف أن تُهمَّش مجموعة معينة بسبب شعيرتها أو ثقافتها في اللباس، ويُهمل جانب التعايش السلمي وثقافة الحوار المبني على "الإنسان أولاً وأخيراً"، تلك الثقافة التي تزدهر بعدالتها الشعوب. كما أن آيات الكتاب العزيز قد ربطت التدبر في خلق الله وفهم التكاليف الشرعية بالعقل، حيث تختتم معظم الآيات بالتعقل.
وحين يبلغ الإنسان هذا المستوى من الوعي الإنساني، يدرك أن التعدد لا يعني التنافر، وأن الاختلاف لا يُولِّد الخصومة ما لم يُستعمل كذريعة للإقصاء. بل على العكس، فإن في تنوع البشر جمالًا خلاقًا وفرصة ذهبية لبناء حضارة أكثر ثراءً وقدرة على التفاعل والتكامل. ولعلَّ أعظم المجتمعات هي تلك التي استطاعت أن تدمج بين هذا التنوع، دون أن تذيب خصوصية أحد، أو تفرض عليه أن يتحول إلى نسخة من غيره. فالتنوع في الألوان واللغات والمعتقدات ما هو إلا انعكاس لثراء التجربة الإنسانية منذ بداياتها وحتى اليوم.
وحين نتأمل في طبيعة الصراعات التي اجتاحت العالم على مرِّ التاريخ، نجد أن معظمها انطلق من مفاهيم ضيقة للهوية، سواء أكانت دينية أو قومية أو عرقية، حتى صارت الحدود الوهمية بين البشر أقوى من الروابط الحقيقية التي تجمعهم. وهنا تتجلّى الحاجة الملحّة إلى العودة إلى مفهوم الإنسانية، لا ككلمة عابرة أو شعار رنّان، بل كقيمة جوهرية تشكّل الأساس في تعاملنا مع الآخر، أياً كان لونه أو دينه أو موطنه.
فالإنسانية لا تلغي الانتماء، بل ترتقي به. فهي لا تطلب من الإنسان أن يتخلى عن ثقافته أو جذوره، وإنما تدعوه لأن يرى في تلك الجذور بوابة لفهم الآخرين، لا حاجزاً يعزله عنهم. هي وعي يُدرك أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وأن في التعاطف والرحمة والانفتاح أبوابًا مشرعة نحو السلام الحقيقي، لا السلام المؤقت القائم على التوازنات الهشّة والمصالح العابرة.
إننا في عصر تتسارع فيه الأحداث، وتتعمق فيه الفجوات، بين فقرٍ مدقع وغنى فاحش، بين شعوب تنهض وأخرى تنهار، وبين من يملك الصوت ومن لا يجد من يسمعه. وفي هذا العالم المتقلب، يبقى خيارنا الإنساني هو الأمل الوحيد في صياغة غدٍ أكثر عدلًا. خيارنا بأن نضع الإنسانية أولًا، أن نربّي أبناءنا على احترام الاختلاف، وأن نعلّمهم أن الإنسان كائن مكرَّم لا يُقاس بانتمائه بل بأفعاله.
وإذا أردنا لمجتمعاتنا أن تنهض، فعلينا أن نبدأ من هذه النقطة: أن نُعيد الإنسانية إلى الواجهة، إلى مناهج التعليم، إلى الإعلام، إلى الخطاب الثقافي والديني. علينا أن نعلّم أنفسنا أن الإنسان الآخر ليس عدوًّا ولا نقيضًا، بل مرآة نرى فيها قلقنا وأملنا وطموحنا. وأن نتحرر من عقدة التمييز والتفوق، تلك التي أسقطت حضارات وأقامت جدرانًا لا تزال إلى اليوم تحاصر قلوب الناس وعقولهم.
عطر الإنسانية الخفي
يُعد طيب الكلام وعدم البذاءة من أهم مقومات استمرار الحضارة وصناعة المجتمع السليم، ويُعد البذاء من أسباب فشل المجتمع أو الحضارة أياً كان مصدرها؛ لأن المجتمع إنما يستمر إذا كان هناك اتحاد وتقارب وانسجام، وأما إذا سادته التفرقة فسوف تؤدي إلى الزوال. قال الله تعالى:
"وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ".
إن الكلام البذيء من أهم أسباب التفرقة والعداوة بين الناس، لذا يقول الله تعالى:
"وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا"، فإذا تكلمتم مع الناس فتكلموا معهم بكلام حسن، لأن الكلام البذيء يؤدي إلى التفرقة والاختلاف حتى لو كان في صورة المزاح. وإذا حدثت العداوة، فسوف تحدث التفرقة.
نحن في هذه الأيام العجاف، نعيش حربًا نفسية باردة، تطلقها فوهات الخطاب المسمومة من هنا وهناك، من خلف منصات التواصل الاجتماعي أو بعض الفضائيات، فتصيب عقولًا عدة، وتطلق العنان لألسنتها بالألفاظ البذيئة أو التهم الباطلة، فتُسقِط عالِمًا أو فقيهًا دينيًّا، أو تُمجّد فاسدًا وفاحشًا، وربما ترفع من شأن تافه أحيانًا.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام):
"ما أضمر أحدكم شيئًا إلا وأظهره الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه." (بحار الأنوار، ج٦٥، ص٣١٦)
وبين هذا وذاك، يعيش هذا الجيل في تخبط، تارة يُمجّد هذا، وتارة أخرى يُمجّد أسلافًا ماضيين لا يُغنون من جوع، جيل لا يُكلّف نفسه بالبحث والتقصي، شغله الشاغل تصفّح برامج ترفيهية، يهرب من تشوش أفكاره وتخبطه وسط دوامة سبّ وقذف الكبار فيما بينهم، أحدهم يُمجّد التاريخ وآخر يُحرّفه.
أريد أن أصل بهذا المقال إلى التشوهات التي تؤدي إلى انحدار المجتمع، ثم الأمة، ألا وهي هدم أفكار الجيل ووعيه. من هنا نجد اليوم عشرات الجرائم والسلوكيات الغريبة التي لم نشهدها من قبل، وينأى لها الجبين.
وإذا كنا نتكلم عن الواقع العربي المسلم، فلابد لنا أن نُدرك الحقيقة: أن الإسلام يقدم للبشرية نموذجًا من النظام المتكامل، لا تجد مثله في أي نظام عرفته الأرض من قبل الإسلام أو بعده، دينٌ يقوم على التسامح والمودة واحترام جميع الأديان والطوائف، ما لم تسبب ضررًا للأمة أو للفرد.
فإذا كانت هذه مبادئ ديني، فهل يحق لي أن أُكفِّر هذا أو أَطعن بشرف ذاك؟
وإذا كانت كل أفعالنا اليومية مبنية على الاقتداء بما فعله الرسول (صلى الله عليه وآله) وآل بيته الكرام، فمعنى ذلك أن تصبح شخصية أعظم رجل متغلغلة إلى حد بعيد في مناهج حياتنا اليومية، ويكون نفوذ الروح قد أصبح العامل الحقيقي الذي نتعود عليه طول الحياة.
وفي الختام، الإنسانية ليست ترفًا فكريًّا، بل ضرورة وجودية، وهي وحدها الكفيلة بصنع السلام الحقيقي بين البشر. وما يخدم أوطاننا الناهضة، التي تصبو جماهيرها إلى أن تتبوأ مكانًا مرموقًا مثل باقي شعوب العالم التي تعيش في سلام ووئام ورخاء وسعادة وبهجة، بكل ما تعنيه كل كلمة من هذه الكلمات حينما تتحول في أرض الواقع إلى حقيقة مرئية ومجسدة.
اضافةتعليق
التعليقات