حصانةُ الفكر والدين في الزمن الحاضر، والصراع مع النفس في خضمّ عالمٍ يموج بالتغيرات والتحوّلات العميقة، ركيزةٌ أساسية وجهادٌ عالٍ. ففي قلق العصر الحديث وتحدياته، على الإنسان أن يحاول تحصين نفسه من المنزلقات التي لا مفر منها؛ فالمواجهة حتمية، ولا بدّ منها، ومهما حاولتَ تغيير المسار، فالمغريات لا تقف ولا حدّ لها.
ربما تجرفك وأنت في القمة، كل ظنك أنك نجوتَ ولا ضرر عليك، فتصبح كمن لم يُمسِك بالوتد البسيط حتى! لهذا، من يدخل في هذا الزمان فعليه أن يخرج بقلبٍ سليم، فلا يفقد خُلُقه، ولا يُمدَّن عينيه، ولا يعوي ذئبُ الشهوة فيه، وألا يُسرع في الحكم، فيقع بين أنياب الهلاك المؤجَّل.
ثم عليه ألا يعبّئ صدره بالبارود، ليصبح جنديًا في معركة لا ناقة له فيها ولا جمل، فيتحوّل حضوره اليومي إلى انزلاقٍ مستتر نحو فقدان الذات. هذا التّيه الذي يكون فيه الإنسان من الصعب جدًّا العودة فيه إلى فطرته السليمة حينها.
هنا نحن لا نقول: علينا بقمع النفس، ولكن بترويضها. ففي حديث ما مضمونه: "إن لكل شيء شهوة، وشهوة النفس الحلال، فإذا أصابت الحلال اشتاقت إلى الحرام."
كما قيل: "من أكثر من المباح، جرّه ذلك إلى الحرام." الفكرة الأساسية التي تدور حولها هذه الأقوال هي أن النفس قد تتدرج من الاستمتاع بالملذات المباحة إلى التجرؤ على المحرّمات إذا لم يتم ضبطها وتقييدها بضوابط الشرع. فالتوسّع في المباح قد يُضعف الوازع الديني، ويفتح الأبواب للوقوع في الشبهات، ثم المحرّمات.
وعن الإمام علي (عليه السلام) قال: "جاهد شهوتك، وغالب غضبك، وخالف سوء عادتك، تزكُ نفسك، ويكمل عقلك، وتستكمل ثواب ربك."
وقد نواجه تحديات جمّة في عالمنا المعاصر، حيث تتصادم أفكارك مع أفكارٍ مضادة، ناتجة عن التعصّب والتطرّف والجهل. تتجلّى هذه الأفكار في صور شتى، بدءًا من استنكار شخصك، وصولًا إلى التحريض من خلال ما تشاهد عبر وسائل الإعلام المختلفة، في الحثّ على إعطاء النفس كل ما تشتهي، هذه الأفكار التي يغذيها ذوو الحروب الناعمة دون علمٍ منا!
فقد تتجلّى أمامنا المغريات والشهوات المتنوعة، ببريقٍ وجاذبية، مع رغبة النفس الجامحة، كما أن الانجراف وراءها يكون بسهولة بالغة، ومَن لا يعي أو يتروّى قليلاً، قد يُقاد إلى مساراتٍ مظلمة، بعيدة كل البعد عن السعادة الحقيقية والراحة النفسية.
إن أهمية عدم الانجراف مع هذه المغريات تكمن في الحفاظ على الذات وقيمها. فالإنسان الذي يستسلم لشهواته العارمة قد يتنازل عن مبادئه وأخلاقه، ويقع في براثن سلوكياتٍ تضرّ به وبأسرته وبمجتمعه. يصبح أسيرًا لرغباته اللحظية، ويفقد القدرة على التفكير الرشيد، واتخاذ القرارات الصائبة التي تخدم مصلحته على المدى الطويل.
علاوة على ذلك، فإن الانغماس في الشهوات قد يؤدي إلى إهمال جوانب أخرى مهمة في الحياة. فالوقت والطاقة التي تُستثمر في إشباع الرغبات العابرة، يمكن توجيهها نحو تحقيق أهداف سامية، وتنمية الذات، وبناء علاقاتٍ صحيةٍ ومستدامة.
إن الحياة ليست مجرد إشباعٍ للغرائز، بل هي رحلة نمو وتطور، تتطلب توازنًا بين مختلف جوانبها. كما أن القدرة على التحكم في النفس ومقاومة الإغراءات هي علامة قوةٍ وإرادةٍ صلبة. فالشخص الذي يمتلك هذه الصفة يكون قادرًا على توجيه طاقاته نحو ما ينفعه ويفيده، ويحافظ على سلامه الداخلي واستقراره النفسي. إنه يختار طريقه بوعيٍ وبصيرة، ولا يدع الأهواء تقوده كيفما شاءت.
ويجب أن نُدرك أن عدم الانجراف مع مغريات الحياة ليس حرمانًا أو تقييدًا، بل هو صيانةٌ وحصانةٌ للذات، وحماية لها من الضياع.
إنه دعوة إلى التفكير العميق في عواقب الأفعال، وإلى إعطاء الأولوية للقيم والمبادئ التي تسمو بالإنسان وترتقي بحياته. إنها حكمة تمنحنا الحرية الحقيقية، حرية الاختيار الواعي والمسؤول.
إن تعزيز حصانة الفكر والدين في عالمنا المعاصر ليس مجرد هدفٍ نبيل، بل هو ضرورة حتمية لبناء مجتمعاتٍ أكثر سلامًا وازدهارًا ونفعًا، وأرواحٍ أكثر نقاءً وطهرًا وصدقًا.
ويتطلب تحقيق هذا الهدف توكلًا دائمًا، وتركيزًا تامًّا على الهدف، الذي نَتج ليس عن خوف، بل حُبًّا وقُربًا لله.
اضافةتعليق
التعليقات