تُعتبر الصين مصنع العالم، حيث تُصدر وتُنتج ما قيمته 8 ملايين دولار، وتنتج 70% من أجهزة المحمول. لكنها في الوقت ذاته تستورد رقائق أكثر مما تستورد بترولاً. ففي عام 2020، استوردت الصين بترولاً بقيمة 260 مليار دولار لتشغيل مصانع العالم، لأن العالم كله يصنّع في الصين، إضافةً إلى تلبية احتياجات 1.4 مليار إنسان من الطاقة. كما استوردت رقائق إلكترونية بقيمة 350 مليار دولار.
تُعد الرقائق مجموعة من الترانزستورات، وهي بوابات كهربائية تعمل بلغة "الباينري" (الثنائية)، والتي تتيح لنا استخدام معظم أجهزتنا لتخزين وتحليل المعلومات. وكلما تطورت هذه الرقائق، زادت قدرتنا الحاسوبية، وازداد ذكاء الآلة، نظراً لقدرتها على التعامل مع كمٍّ هائل من البيانات.
جهاز آيفون 12 وحده يحتوي على 12 رقاقة، تضم أكثر من 11 مليون ترانزستور. وشركة آبل، التي تُقدَّر قيمتها التسويقية بـ 3 تريليون دولار، تُعدّ الأعلى قيمةً تسويقية في العالم، وقد باعت 2.5 مليار جهاز آيفون. لكنها لا تصنّع الرقائق، بل تستوردها، فهي تصمّم نظام التشغيل الخاص بها فقط، دون تصنيعه.
92% من إنتاج الرقائق المستخدمة في الأجهزة الطبية، والطائرات الحربية، والهواتف الذكية، وكافة الأجهزة الإلكترونية، يتم تصنيعه في جزيرة تايوان، وتحديداً في شركة (TSMC)، التي تنتج رقائق بحجم 100 نانومتر. وقد استطاعت هذه الشركة إنتاج ترانزستورات بحجم نصف فيروس كورونا.
في عام 1947، تم اختراع الترانزستور، وحصل ثلاثة علماء على جائزة نوبل لقاء هذا الاكتشاف. لكن جائزة نوبل تؤكد عبقريتك العلمية، لا قدرتك كرجل أعمال أو مدير ناجح. أحد هؤلاء العلماء كان "ويليام شوكلي"، الذي أسس شركة، إلا أن أخلاقه السيئة دفعت 8 من أفضل موظفيه للاستقالة وتأسيس شركة "فيرتشايلد"، والتي نجحت في تصنيع أول رقاقة من مزيج السليكون وعدة ترانزستورات.
ورغم عبقريتهم، لم يكن لديهم خبرة في ريادة الأعمال. بالمصادفة، وبعد ثلاثة أيام فقط من تأسيس شركتهم، أطلق الاتحاد السوفيتي أول قمر صناعي يدور حول الأرض بسرعة 18 ألف ميل في الساعة. كانت هذه صدمة علمية للولايات المتحدة وخسارة كبيرة في سباق التفوق. وخرج الرئيس كينيدي مصرحاً بأن أمريكا سترسل أول إنسان إلى القمر.
ومن هنا، حصلت شركة "فيرتشايلد" على أول عميل لها: الحكومة الأمريكية، عبر دخولها في مجال صناعة الصواريخ. وقفزت قيمة الشركة من 500 ألف دولار سنوياً إلى 21 مليون دولار سنوياً.
وبدأت الشركة في تصنيع الرقائق، لكنها كانت مكلفة في الولايات المتحدة بسبب ارتفاع أجور العمالة. بالمصادفة، سافر أحد العلماء المؤسسين للترانزستور إلى اليابان، ولاحظ اهتمام الشعب الياباني الشديد بالإلكترونيات، حيث إن العمالة أرخص هناك بعشر مرات. العامل الياباني يتقاضى 25 سنتاً في الساعة، مقابل 10 سنتات للعامل الكوري.
ومع نقل صناعة الرقائق إلى اليابان، تفوقت الأخيرة بسرعة مذهلة. في عام 1986، أصبحت اليابان تصنع 70% من رقائق العالم، متفوقة على أمريكا التي كانت صاحبة جهاز "الليثوغرافي" (آلة طباعة الشرائح الإلكترونية).
شعرت أمريكا بالتهديد وبدأت تبحث عن حليف جديد لإنتاج الرقائق. وكان أفضل خيار هو جزيرة تايوان، بسبب انخفاض أجور العمال وكونها دولة غير مستقرة اقتصادياً. وظهر العالم التايواني العبقري "موريس"، الذي طرح مبدأ: "إنتاج 100 ألف قلم رصاص أسهل من إنتاج 100 قلم رصاص". وهكذا، بدأ بإنشاء مصانع لإنتاج الرقائق المصممة من قبل شركات مثل آبل وإنفيديا، وهنا تأسست شركة TSMC، التي تُعتبر اليوم المنتج الأول والرئيسي لمعظم رقائق العالم.
لكن يبقى السؤال: من أين تأتي الأجهزة التي تُنتج هذه الرقائق؟ في قرية "آيندهوفن" في هولندا، توجد شركة تُسمى ASML، وهي تحتكر صناعة آلات تصنيع الرقائق في العالم. هذه الشركة الوحيدة تنتج الأجهزة المستخدمة في صناعة الرقائق، وتتعامل مع مئات الشركات لصناعة جهاز واحد، نظراً لدقة وتعقيد أجزائه. وهي المتحكم الأساسي حالياً في مصير شركات الإلكترونيات العالمية. وتُعد هذه الأجهزة من أعقد ما أنتجته البشرية.
باختصار، الإنسان كائن عبقري، لأنه استطاع تصنيع بوابات إلكترونية بهذا الحجم الدقيق. أصغر ترانزستور اليوم بحجم 1 نانومتر، مع أن عمر الإنسان على هذا الكوكب لا يتجاوز 300 ألف سنة. نحن مجرد "فاصل إعلاني" على هذا الكوكب، ومع ذلك وصلنا إلى هذا المستوى من التعقيد العلمي.
اضافةتعليق
التعليقات