في عالم يتضاءل فيه دور العقل أمام هيمنة المال، وتُقاس فيه القيمة بالأرقام في الحسابات البنكية تأخذنا رواية أرض زيكولا إلى واقع مغاير لكنه يحمل في طياته إسقاطا عميقا على حياتنا فهناك لا مكان للعملات الورقية أو الذهبية بل الذكاء هو العملة الوحيدة والفقر الفكري جريمة لا تُغتفر، هناك في أعماق الرواية حيث في نهاية كل عام يصمت الجميع، وتصمت الموسيقى، بعدها يصعد رجل ضخم إلى منصة عالية وبيده سيف يتبعانه رجلان أقوياء ويجران رجل يبدو عليه المرض رغم شبابه وهو الأفقر فكرياً، والصمت يخيم على الجميع حتى تدق الطبول فينزل أهل المدينة كلهم على ركبهم وحيث ذلك المشهد يسقط الفقير هو الآخر على ركبيته ويداه مقيدتان بالخلف.
وبعد لحظات يوخزه السياف في ظهره حتى يشهق برأسه فيطيح برقبته وتتناثر دماؤه على المنصة، فيصيح أهل المدينة فرحا وتدق الموسيقى مرة أخرى ويبدأون يرقصون ويمرحون وتبدأ الألعاب البهلوانية مجددا، أما خالد بطل الرواية فقد سرت فى جسده رعشة مما رآه وانتفض قلبه بقوة وتسارعت أنفاسه وهو ينظر إلى ذلك الجسد المنزوع رأسه وجسده يرتعد إنه لم ير مثل ذلك من قبل، يتحسس وجهه ويسأل نفسه هل يحلم أم أنها حقيقة، لماذا ذبحوا ذلك الفقير إنهم قوم بلا قلب .
رغم أن أحداث الرواية تدور في عالم خيالي لكنها تعكس واقعا ملموسا حيث أصبح الفكر والإبداع يُعانيان التهميش، بينما تفتح الأبواب على مصراعيها لأولئك الذين يتقنون بيع الوهم فيكون السؤال المطروح: لماذا أصبح الإبداع عبئا في بعض المجتمعات، بينما يُكافأ التكرار والسطحية؟
زيكولا وعالمنا: من الذي يملك الثروة الحقيقية
يأخذنا التساؤل إلى زيكولا حيث يُصبح العقل هو رأس المال والمعرفة هي مفتاح البقاء هناك لا يمكن للجاهل أن ينجو فالإفلاس الفكري يؤدي بصاحبه إلى الإعدام أما في عالمنا فقد تحول الذكاء إلى عبء وكأن السعي وراء المعرفة ترف لا يليق إلا بالقلة ففي حين يكدح المبدعون في صمت نجد أن الشهرة والثروة تذهب لأولئك الذين يتقنون استهلاك عقول الجماهير لا تنميتها لذلك يمكن رؤية أن المعادلة في زيكولا صارمة وعادلة في آن واحد: فكر أكثر امتلك أكثر، أما في واقعنا فالثراء ليس بالضرورة دليلًا على الكفاءة، بل قد يكون نتاج الحظ، أو النفوذ، أو حتى قدرة على التلاعب بالعقول.
بين التضليل والواقع: حين يصبح المال سيد العقول
في زيكولا الذكاء هو الحكم والمظاهر لا قيمة لها أما في عالمنا فقد أصبحت الصورة أهم من الحقيقة والتلاعب بالعواطف أقوى من قوة المنطق فيمكن للمال أن يصنع "ناجحين" بلا فكر ويُسكت أصحاب العقول الحقيقية ويحجب الحقائق خلف ستار من الإعلانات اللامعة والمحتوى السطحي سواء كان ذلك على صعيد السياسة، الاقتصاد، وحتى الثقافة، كلها أصبحت رهينة لمن يملك النفوذ المالي لا لمن يملك الفكر حيث يتم التلاعب بالوعي العام وتصنع النماذج الزائفة للنجاح حتى بات البعض يعتقد أن النجاح لا يأتي إلا لمن يتقن "اللعبة"، لا لمن يسعى حقا لتغيير العالم مما يأخذنا نحو السؤال الأساسي: هل يمكن للعقل والمال أن يتعايشا؟
في الحقيقة لسنا بحاجة إلى استبدال المال بالذكاء كما في زيكولا لكننا بحاجة إلى إعادة التوازن فالثروة وحدها لا تصنع حضارة والفكر وحده لا يُطعم الجائع لكن حين يكون المال في خدمة الإبداع وحين يكون الذكاء هو معيار النجاح الحقيقي حينها فقط يمكن للعالم أن يتقدم، وبين أرض زيكولا وعالمنا تتجلى المفارقة الكبرى، فهناك الذكاء هو الثروة الحقيقية وهنا يُستبدل الفكر بالبريق الزائف فإما أن نعيد للعقل مكانته وإما أن نبقى في عالم تُقاس فيه القيمة بما نملك لا بما نفكر، لكن هل نحن محكومون بهذا المصير أم أننا قادرون على إحداث التغيير، فإعادة الاعتبار للعقل والمعرفة ليست مجرد ترف فكري بل ضرورة لضمان مستقبل أكثر إنصافا وتقدما فكما لا يمكن للعالم أن يستمر بلا اقتصاد فإنه لا يمكن أن يزدهر دون فكر وإبداع ولعل "أرض زيكولا" مجرد خيال لكنها في جوهرها انعكاس لحقيقة نعيشها فهل سنظل أسرى عالم يقيم الإنسان بما يملك لا بما يفكر أم أننا سنعيد للعقل مكانته قبل أن يصبح التفكير رفاهية لا يقدر عليها إلا القليل.
اضافةتعليق
التعليقات