الثقافة هي أولاً: (محيط) معيّن يتحرّك فيه الإنسان، فهو يُغذّي إلهامه، ويكيف مدى صلاحيته للتأثير عن طريق التبادل، والثقافة (جو) يتكوّن من ألوان، وأنغام وعادات وتقاليد وأشكال وأوزان وحركات تطبع على حياة الإنسان اتجاهاً، وأسلوباً خاصاً يقوّي تصوّره، ويُلهم عبقريته، ويُغذّي طاقاته الخلاقة، إنها الرباط العضويّ بين الإنسان والإطار الذي يحوطه.
كما تُحدَّد الثقافة بعناصرها المستمدة من الروح الأخلاقي، فإنها تتحدد أيضاً بالذوق الجمالي، وإذا كانت الثقافة قبل كل شيء (محيطاً) معيناً، فمن الواضح أنّ العنصر الجمالي يلعب فيها دوراً رئيسياً، إذ إنّ القدرة الخلاقة مرتبطة دائماً بالانفعال الجمالي، بل إن مقدرة الفرد على تأثير مرتبطة أيضاً ببعض المقاييس الجمالية، ونحن نعرف مثلاً في ميدان التجارة والصناعة أن «الصنف الرديء لا يُباع»، على أن القيمة الجمالية يجب أن يُنظر إليها.
وخاصة من الوجهة التربوية، فهي تُساهم في خلق نموذج إنشائي متميز يخلع على الحياة نَسَقاً معيّناً، واتجاهاً ثابتاً فى التاريخ بفضل ما وهب من أذواق وتناسب جمالي.
إن الثقافة هي الجوّ المشتمل على أشياء ظاهرة، مثل الأوزان والألحان والحركات وعلى أشياء باطنة كالأذواق والعادات والتقاليد، بمعنى أنها الجو العام الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع معين وسلوك الفرد فيه بطابع خاص، يختلف عن الطابع الذي نجده في حياة مجتمع آخر.
إن المبدأ الأخلاقي أساس الثقافة، الحقيقة الأولى التي تُبادر إلى أذهاننا، هي أنّ الثقافة لا تستطيع أن تكون أسلوب الحياة في مجتمع معيّن كما ذكرنا ، إلا إذا اشتملت على عنصر يجعل كل فرد مرتبطاً بهذا الأسلوب، فلا يُحدِث فيه نشوزاً بسلوكه الخاص، ونحن إذا دققنا النظر في هذا العنصر، فإننا نرى أنه لا بد أن يكون خلقياً، فإذا قررنا وجود هذا العنصر بوصفه ضرورة منطقيّة اجتماعية، فإننا نكون بهذا قد وضعنا فصلاً هاماً من فصول الثقافة، وحققنا شرطاً أساسياً من شروطها وهو: المبدأ الأخلاقي... ولو أننا اتخذنا الآن هذا المبدأ مقياساً يوضح لنا بعض الظواهر الاجتماعية، التي تعترضنا أحياناً في صورة ألغاز لا تدرك معناها، فسوف نجد مثلاً أن العلاقات الشخصية لا تقوم في أي مجتمع على غير أساس أخلاقي، ولا كانت شبكة الصّلات الثقافية عبارة عن تعبير عن العلاقات الشخصية في مستوى معين.
فإن هذه الشبكة لا يُمكنها أن تتكون دون مبدأ أخلاقي، وهذا الجانب من القضية قد أصبح واضحاً الآن، فإن شبكة الصلات الثقافية تختل حتما في بلد ما، إذا اختل فيه المبدأ الأخلاقي، وإن هذه الحقيقة هي وحدها التي تفسر لنا كيف أن فعالية المجتمعات تزيد أو تنقص بقدر ما يزيد فيها تأثير المبدأ الأخلاقي أو ينقص، فإن مواقفها إزاء المشكلات محددة بذلك المبدأ الذي يكون الشرط الأساسي لأفعالها، تحديداً ينظم فيها علاقات الأشخاص تنظيماً يُناسب المصلحة العامة، وليس
ثمة أساس آخر يقوم بهذه المهمة. فالمبدأ الأخلاقي يقوم بالضبط ببناء عالم الأشخاص، الذي لا يتصور بدونه عالم الأشياء، ولا عالم المفاهيم، ومن هنا كانت أهميته الكبرى في تحديد الثقافة في مجتمع ما.
في توضيح الخلاف الجوهري بين الثقافة التي تتضمن بوصفها شرطاً أولياً تحديد الصلات بين الأفراد وبين العلم الذي لا يهتم إلا بالصلات الخاصة بالمفاهيم والأشياء، فالرجل العالم قد يكون عنده إلمام بالمشكلة كفكرة، غير أنه لا يجد في نفسه الدوافع التي تجعله يتصوّرها عملاً، في حين أن الرجل المثقف يرى نفسه مدفوعاً بالمبدأ الأخلاقي الذي يكون أساس ثقافته إلى عمليتين: عملية هي مجرد علم، وعملية أخرى فيها تنفيذ وعمل ووجه آخر للفرق بين العلم والثقافة: فإن الأول تنتهي عمليته عند إنشاء الأشياء وفهمها، بينما الثانية تستمر في تجميل الأشياء وتحسينها.
يجب علينا إذن أن نقول: إنّ الثقافة تتشكّل على أربعة فصول: فصل أخلاق، وفصل جمال، وفصل منطق عملي، وفصل علم. على أننا لو تأملنا أخيراً في الموضوع، لوجدنا أن الترتيب بين هذه العناصر يختلف باختلاف الدوافع التي تدفع إلى العمل، وليس باختلاف الأصول النظرية والوسائل الفنية، وهذا يعني أن ذاتية الثقافة في نوعها تقوم على تقديم أو تأخير مبدأين اثنين منها : هما مبدأ الأخلاق ومبدأ الجمال. فالأولوية التي يمثلها أحد المبدأين في تركيب الثقافة يُحدد ذاتيتها، كما يتحدد به اتجاه عام للحضارة التي تستند إلى تلك الثقافة.
ماذا نعني بـ (الأزمة الثقافية ) ؟ إن الجواب عن هذا السؤال يتاتى بطريقة مباشرة، فكلما عمل المجتمع واجبه في السهر على سلوك الأفراد . الحرية، أو أية دعوة أخرى وزال الضغط الاجتماعي، انطلقت الطاقة الحيوية من قيودها، سواء أكانت هذه القيود مفروضة على أساس ديني أو أساسي دستوري، فدمرت كل ما يقوم على تلك الأسس سواء كانت دينية أو علمانية، البناء الاجتماعي، وهذا ما يحدث أيضاً عندما يفقد الفرد، مثلاً لأسباب سياسية، حقه في النقد أو واجبه كتغيير المنكر.
ففي كلتا الحالتين تنشأ أزمة ثقافية مالها البعيد أفــول حضارة، وفي القريب زوال الالتزام بين المجتمع والفرد زوالاً، يُعبّر عنه في صورته الفلسفية كتاب مثل (اللامنتمي) للإنجليزي (كولين ولسون)، أو في صورته السلوكية عصابات (الهيبيز). يجب أن نلاحظ هنا أنّ كلّ ظاهرة اجتماعيّة لا تستقر في صورة منشئها، فهي كائن مرتبط بحياة المجتمع، بينها وبين هذه الحياة تفاعل جدلي ينمّي نتائجها في المجتمع من حدّ الصفر إلى نقطة (اللارجوع). فالأزمة الثقافية تنمو وتنمو معها أيضاً نتائجها، من الحد الذي يمكن تداركه بالتعديل البسيط إلى الحد الذي يُصبح فيه التعديل مستحيلاً، أو لا يمكن إلا بثورة ثقافية عارمة تكون في الحقيقة بمثابة انطلاقة جديدة للحياة الإجتماعية من نقطة الصفر.
وبين هذين الطرفين تبرز حقيقة ألا وهي أن ظرفاً واحداً أعني أزمة ثقافية، يخلق أمام مجتمع متقهقر أو جامد استحالة لا يستطيع التغلب عليها، فيستسلم كما يقولون للواقع، بينما يخلق هذا الظرف نفسه بالنسبة لمجتمع آخر فرصة لدفعة جديدة لحركيّته.
اضافةتعليق
التعليقات