"بوجود تلك الجحيم المشتعلة في قلبك وعقلك، كيف يمكنك أن تحيا؟"
يعيش الكثير منا في دوامة من الصدمات والإساءات، وخصوصا أثناء التنشئة الأولى فيكون شعورنا الدائم بأن الدنيا تعاملنا بشكل يفوق قدرتنا على التدارك والمواكبة. أتدري تلك الأحلام التي تراودنا عن لجنة الامتحان التي انتهى وقتها قبل أن نتمكن من إنهاء المطلوب وشعورنا في اليقظة بأن الوقت أضيق من قدر تفاعل الإنجاز، وأن هناك موعدًا حرجًا، لن نتمكن من الإيفاء بالمطلوب خلاله. شعور مقيت بأن تكات الساعة تلاحقنا وكأن قنبلة ما على وشك الانفجار.
يوما ما شاهدت إحدى الرسوم التي يتم استخدامها في جلسات العلاج بالفن، تُسمى (بطاقات المجاز)؛ حيث يحمل الكارت مشهدًا ما يُسقط صاحبه عليه ما يراه فيه.
أتذكر بطاقة منهم قد ارتسمت فيها صورة سلحفاء تقف على حافة الطريق السريع تتأمله وكأنها تقرّر المرور نحو الجهة المقابلة، ورغم أن الطريق فارغ ولكنها تتفاعل، يمكنني أن أستحضر الحالة للغاية، لقد تلبستها كثيرًا، السلحفاة تمثل شعوري الدائم بأني أبطأ مما ينبغي، وأني أحمل ذلك الثقل العظيم فوق ظهري يُضيق خطواتي، وأنه ينبغي علي المرور نحو الجهة الأخرى ولكن الطريق سريع.
والسيارات وإن لم تكن بادية في الأفق ولكن من الممكن أن تظهر إحدى السيارات المسرعة فجأة، فهل تسعفني سرعتي البطيئة تلك في التجاوز؟ وكأن هناك نوعا من الملاحقة بين سرعتي في العبور أو التعافي أو النمو، وبين تهديد ما سينزل بي! نشعر دوما بشعور تلك السلحفاة التي هي بصدد عبور الطريق السريع.
تمر بنا تلك اللحظات من اللهاث وشعورنا بأننا نسابق الزمن دون أن ندري لماذا نلهث؟ وما الذي نسابقه حقا؟ ومن أي شيء نهرب؟ ونحو أي شيء نتجه؟! ويحدث هذا الأمر كثيرًا حين نقرّر التغيير، ونبدأ في اتخاذ خطوات نحو التعافي والتخلّي عن أنماطنا السابقة ووسائل دفاعاتنا القديمة، ولكننا نشعر وكأننا ملاحقون بعقوبة ما ستنزل أسرع من قدرتنا على المواكبة والتغيير والتعويض كيف ينشأ الأمر؟!
ببساطة الصدمة تعني حدث يتخطى قدرتنا على المواكبة والصمود حدث يهدد كياننا ووجودنا، والإساءات التي تعرضنا لها قد استحثت استجابتنا الفسيولوجية عند الشعور بالخطر فحين الخطر تستجيب أجسامنا عبر ما يسمى الجهاز العصبي السمباثوي مفرزة الأدرينالين الذي يمنح الجسد إشارة لطريق من اثنين: إما الهرب أو القتال والصراع من أجل البقاء. (Fight or Flight). لذا فطول تعرُّضنا للصدمات المبكرة والإساءات الأولى، قد درّب أجسادنا على دوام التأهب والشعور بالخطر القريب، أو ترقب وقوع هذا الخطر، وبالتالي دوام نشاط هذه الاستجابة الانفعالية والفسيولوجية وكأننا متأهبين للعدو الجري، أو المعركة على الدوام.
ثم كبرنا ونحن نحمل تلك الاستجابات غير المفهومة بالنسبة لنا، حتى وإن انتهت الصدمة وارتفعت الإساءة، ولكن يبقى الجسد مدربًا على تلك الاستجابة. لذا نمنح الأمر بُعدًا عقليا تخيليا، فنظن أنه طالما جسدنا يحمل هذا التأهب وتلك الدفاعات الدائمة الأدرينالين؛ من إذن فلابد أن هناك خطرًا قريبًا يحدق بنا أو أن هناك ميقات لانتهاء امتحان ما لا نعرف منهجه وطبيعة أسئلته ولا نجهز له جوابًا! ولما ارتبطت الإساءة بالذنب، وكانت الإساءة تمثل نوعا من العقوبة، لذا فقد ارتبط الخطأ بتوقع عقوبة ما ستدهمنا قبل أن نتمكن من تصحيح هذا الخطأ، ونبقى نشعر أن الأوان قد فات ولن يمكننا التدارك.
وحين نفهم تلك الأبعاد النفسية والفسيولوجية ونكتشف ارتباطاتها بالإساءة، ينحل هذا الاشتباك ونفهم أن شعورنا لا يعني أنه الواقع، وخوفنا ليس دليلا في ذاته على عقوبة قادمة أو مصيبة مداهمة، وأن شعورنا بالتأهب ومصارعة الوقت ليس دلالة على تأخرنا، إنما هي ذكريات هذا الجسد الذي تعرض للإساءة، وحين نفهمه ونُقدّره، وينحل الاشتباك داخلنا سيبدأ جسدنا في التعافي وستشرع نفوسنا في الالتئام..
اضافةتعليق
التعليقات