منذ المساء استولت عليّ كآبة جريحة تسمرت في قلبي حتى ظلَّت تنهش به بتوحش قاتل، كنت أشعر بثقل على صدري (ذاك أمامي, وهذا إلى جانبي، ثم أين تسرب الآخر ومضى؟) لم ينفعني تجولي على طول الأرصفة بالهدوء ولم أعد أشعر بالراحة عما حدث في تلك الحافلة اللعينة!
كان هنالك رجل خمسيني يبدو عليه الوقار والوهن يرافقه شاب منهك يحاول أن لا يفرغ ما بجوفه من تعب حتى لا يظهر أمام الركاب بموقف يجعلهم يقللون من شانه أو ربما يشفق عليه أحدهم، هكذا شعرت من حركات جسده..
جلسا تحديدا أمامي في حافلة النقل العامة بملابسهم البسيطة التي بدت لي مباركة ولكن أثار فضولي ما يعانيه الشاب من خلال جلسته المتوترة على الكرسي المتحرك ولم أجد سببا يجعله ينكمش على بعضه ويحاول أن لا يلامسه الآخرين..
بقى طرف عيني يتابع الأحداث حتى انزلق الشاب على الرجل الجالس إلى جانبه الأيمن بسبب مطب ما عصف بنا وتركنا نغادر بسلام فسمعت اعتذاره الذي انهال كسيل من الاحراج، اعتذر عن ملامسته بملابسه المليئة بالدهن ومخلفات العمل الصناعي فرد الطرف الآخر باسما: لا داع للاعتذار ولا تشعر بالحرج فجميعنا مسافرين للحصول على أرزاقنا بشرف.
الآن فهمت سر انكماشه على نفسه وتوتره المستمر لقد كان خوفه من الوقوع بحرج مع أحدهم يسبب له الارباك فراحت عينيّ تتجول على بقية الركاب لم أجد حركة غير محببة ما عدا شخص كان ينظر بتقزز إلى الشاب!.
يا ترى لو كان هو من يجلس على المقعد الآخر من الشاب هل ستكون ردة فعله طبيعية أم كان سيثور غضبا؟
بعد توقف القافلة ترجل صاحب النظرة المقززة وحذر الشاب أن لا يلامسه تلافيا لحدوث نزاع، لقد كانت كلماته صفراوية جدا وكأنها غُمست بالسم قبل تقديمها!
وفهمت مرة ثانية وبطريقة مختلفة عن الأولى أن البشر غير متكافئين، منهم من يحافظ على كرامة ومشاعر الغير كأنها له وفيهم من يقسو خوفا على وجهته الاجتماعية التي يعيشها ويرتادها وما بين الاثنين يعيش صاحب العيشة.
مصيبة كبيرة أن نكون أناسا لا نرحم بعضنا البعض ولا نداوي جروح غيرنا!
كارثة بشرية أن ندس الطبقات الاجتماعية في تعاملنا مع الأحداث حيث أن لا يوجد احتمال في الوسط أن نكون غير منصفين ولا يمكن أن نكون مشغولين إلى درجة نفقد بها الشعور بمن حولنا.
فليس من المحبب ايلاء الطبقات الاجتماعية أهمية فيما نحن عليه اليوم فقد نكون في أحسن الأحوال وبمشيئة الله "جل وعلا" نكون في أسوئها أيضا إذ أننا لا نعرف أقدارنا حتى نعيشها بالكامل وصولا إلى تسليم أمانة خالقنا إليه لنغرب عن الحياة إلى الأبدية.
ويعلم الله يا سيدي/تي أن هذه الرحلة الشاقة التي تدعى بالعمر ليست إلا بوصلة ايصالنا إلى نهاية النفق الذي جهدنا في انشغالاتنا ونسيناه، فتذكروا حقيقة وجودكم قبل أن تتذمروا، قبل الندم وفوات الأوان.
اضافةتعليق
التعليقات