بعض الناس يجعلون الحياة صعبة بقصد أو بدون قصد، وربما بدون قصد أكثر لأن هكذا شخصياتهم وهكذا هو بناؤهم النفسي، هكذا تشكلوا على مر السنين بفعل عوامل كثيرة ساعدت في نحت هذه النماذج، ولعلك عندما تتعمق في شخصيات الطواغيت على مر التاريخ تجدهم يتمتعون بصفات مشتركة مثل التزمت وحب السيطرة واضطهاد الاخرين...الخ.
ولكن الأمر لا يتوقف على الطواغيت الكبار والحكام، بل الأمر يتوسع على الطواغيت الصغار الذين يتعايشون معك بصورة يومية فتجد نفسك في حيرة ماذا تفعل وخاصة إذا أجبرتك الظروف للتعاون أو التعايش أو الحياة مع هذا الإنسان، زوج زميل جار، صديق رئيس مرؤوس. وقد لا تكون هذه السمات واضحة في البداية ويبدو الأمر على السطح عادياً ويبدو هو إنسانًا طبيعياً، ولكن ما تحت السطح يغلي يلسع يؤذي ويؤلم.
وتمضى الحياة مع هذا الإنسان وأنت لا تدري من أين تأتي الصعوبات ولكنك تشعر دائمًا أن هناك شيئًا غلطا. شيء ما يؤدى إلى التوتر وتعكير الأجواء بل تجد نفسك تعيش في حالة دائمة من التوتر، وذلك لأن الطرف الآخر يكون دائما في حالة تحفز واستنفار تشعر بروح التحدي والتصيد تملؤه، تشعر أن ثمة حاجزاً يقف فاصلاً بينك وبينه، لا يتوحد ولا يذوب مع أحد أبدا، بل يجعل بينه وبين كل الناس مسافة. وهي مسافة كبيرة لا تسمح بالتواصل الإنساني الطبيعي، شيء ما يجعلك تشعر أنه بعيد وأنه يحيط نفسه بسياج خرساني أصم لا مسام فيه، أما داخله فهو أيضا جامد به صلابة لا يرق وتشعر بدرجة معينة بالجفاف الوجداني معه.
لا يلين حباً ولا يستسلم حباً ولا يضعف حباً. وإنما يحتفظ دائما بوجهه القوي الملامح ومشاعره الجامدة وتعبيراته الصارمة وعباراته الجافة الخالية من أي مودة. ليس ذلك بشكل مطلق ولكن إلى درجة ما. وليس في كل الأوقات ولكن في معظم الأوقات، وقبل أن نتطرق إلى تفاصيل العلاقة نقول إن هذا البناء النفسي الخاص غير السوي يؤدى إلى أن العلاقة مع إنسان آخر تتسم بما يسمى الجفاف العاطفي وهو أيضا درجات ومستويات، فصاحب هذه الشخصية التي نصفها لا يميل كل الميل بل هو شحيح في عواطفه لا يذوب كل الذوبان بل هو جامد إلى درجة ما في مشاعره. إشعاعاته محدودة. دفئه محدود. سطحه به درجة من البرودة ولا يعكس إلا القليل، وهو سطح خشن من الممكن أن يجرحك إذا حاولت الاقتراب أكثر من اللازم. وهذا الجفاف العاطفي يؤدي تدريجياً وبدون أن تشعر إلى صعوبات في العلاقة.
الأمر لا يصل إلى جنون العظمة أو ضلالات العظمة المرضية، ولكن ثمة إحساسً بأنه أفضل، ولذلك فهو يقابل الناس بوجه جامد في البداية، ويكون شديد التحفظ ولا يقبل بسهولة، ولا يتبسط. لا يظهر قبولاً، لا يتودد، ولكن على الناس أن يحاولوا الاقتراب وعليه هو تجده يشيح بوجهه بعيداً عنك دون أن تدري لماذا؟ تجده جامد الوجه غاضب النظرات دون أن تعرف ماذا فعلت، ولكن في كل الأحوال هناك شيء ما أغضبه منك شيء بسيط لا تقصده، بل لا شيء على الإطلاق ولكنه يفسر كل شيء بطريقته الخاصة وعلى الجانب السيئ. هذه الحساسية تجعل العلاقة متوترة دائما.أن يصدهم ترفعا وتعاليا، وقد يكون هذا مقبولاً مع الغرباء في البداية. أي أن يكون هناك درجة أو درجات من التحفظ وجس النبض والاختبار، ولكنه لا يكون مقبولاً مع شخص يعمل معك أو يعيش معك، إن ذلك يزيد من درجة الجفاف العاطفي، ومما يزيدك ألما في التعامل مع هذا الشخص هو أنه لا يحاول أن يثبت أنه الأفضل باستعراض صفاته وإمكانياته.
ولكن يحاول بشدة أن يثبت أنك الأدنى وذلك بتوجيه النقد لك. بالتقليل المعلن من إمكانياتك وقدراتك. بعقد مقارنات بينك وبينه أو بينك وبين الآخرين وتخرج أنت خاسراً في هذه المقارنة، وفي أوقات المواجهة الحادة لا يتورع عن أن يقوم بتجريحك وإظهار عيوبك وتسفيهك، وقد ينبش في الماضي ليأتي بأدلة على وضعك المتدني، وقد يخترع أشياء من خياله أو قد يفسر أشياء على هواه لدعم وجهة نظره فيك أو قد يبالغ في أشياء أو قد يقلب الحقائق، وتجد نفسك في النهاية مدانا محاصراً مهانًا فتكره نفسك أولاً وتكرهه ثانيا وتكره الحياة ثالثًا، أي مزيد من الجفاف العاطفي ومزيد من التباعد وهو لا يغفر لك شيئًا، ولا ينسى، وإنما يقوم بتخزين كل شيء ليخرجه عند الحاجة، ولا يتسامح، ولا يتنازل، لا يلين.
وهو يتمادى في خصامه، وخصومته ولا يبدأ بالمصالحة. ولا يتنازل، ولا يصل إلى حلول وسطية، إلا إذا كان مضطراً أو مقهوراً أو لتحقيق مأرب أو نوع من المناورة والتكتيك المرحلي ورغم نقده اللاذع وجرحه للآخرين فإنه شديد الحساسية لأي نقد بل لأي كلمة يشتم منها شيئًا في غير صالحه بل يرفض أي رأي مخالف لرأيه بل ربما يرفض أي رأي مشابه لرأيه حتى يكون هو صاحب الرأي وقائله الأول، هذه الدرجة العالية من الحساسية تجعل الاقتراب منه والتعامل معه صعبا، وقد تجد نفسك مدانا دون أن تدرى أي خطأ أو أي جرم أقدمت عليه.
تجده يشيح بوجهه بعيداً عنك دون أن تدري لماذا؟ تجده جامد الوجه غاضب النظرات دون أن تعرف ماذا فعلت، ولكن في كل الأحوال هناك شيء ما أغضبه منك شيء بسيط لا تقصده، بل لا شيء على الإطلاق ولكنه يفسر كل شيء بطريقته الخاصة وعلى الجانب السيئ. هذه الحساسية تجعل العلاقة متوترة دائما.
كما يحاول أن يحصن نفسه بالسلطة وبالمال ليكون في الوضع الأقوى، ولهذا فهو يسعى للمناصب الرئيسية التي من خلالها يستطيع التحكم في الآخرين ويبذل جهوداً مضنية للتقرب من السلطة ليزداد قوة، ويميل كذلك للاشتغال بوظائف كالأمن والمباحث والمخابرات أي التي تكسبه خوف الناس ومهابتهم له، وهو يسعد حين يرى الخوف في عيون الناس، فهذا يؤكد له قوته وهذا دفاع عن خوفه الشخصي فعقله الباطن يقول حينئذ: هم الذين يخافون ولست أنا الخائف، بل أنا الذي أخيفهم. وهو يحمل في داخله طاقة عدوانية وطاقة تدميرية هائلة، ويكون شديد العنف في المواجهة ولا يتورع عن الإيذاء والإيلام بل وحتى تدمير حياة أو مستقبل إنسان آخر.
ورغم غروره وغطرسته ونقده وتحقيره للآخرين فهو يشعر دائماً أنه مضطهد أو أنه لم يأخذ حقه وأنه محط غيرة وحسد وحقد الآخرين، وأنه لتفوقه وتميزه فإنهم يتحدون ضده ويكرهونه ويحاولون النيل منه والانتقاص من قدره ووضع العقبات في طريقه واختلاق الأزمات ونشر الإشاعات الباطلة عنه، وهذا يفسر حالة التحفز الدائم التي يكون عليها إذ يعتقد أن الجميع ضده وأن الجميع لديهم الاستعداد للتآمر ضده أعود وأقول إن هناك درجات تبدأ من البسيط إلى المتفاقم وليست كل الوقت ولكن بعض الوقت أو معظمه حسب الدرجة، ولهذا فمن الصعب إرضاؤه من الصعب مداواته بمزيد من المودة والحب. من الصعب استقطابه عاطفياً ناهيك عن صعوبة إقناعه برأي أو جهة نظر فهو عنيد.
أي لا يقبل الآخر، بل لا يستمع إليه، ويأخذ سلوكًا معاكساً مغايرا وينفرد تماما في الرأي ولا يقبل أن يعارضه أحد أو أن يقف في طريقه أحد، وهو على استعداد لأن يدوس من يهم برأسه إذا امتلك القوة والسلطة لذلك. فهو نموذج متكامل للديكتاتور وحب السيطرة والسطوة والتحكم في الآخرين وأن تكون كل الأمور في يده وتحت تحكمه. والهزيمة تميته وتجعله يشعر بالإحباط ويصاب بالاكتئاب ولكنه يظل عنيداً متصلبًا، ولا يتراجع إلا حينما يشعر أنه محاصر وأنه لا أمل ورغم ذلك يحاول أن يجد مبررات لفشله ولهزيمته يسقطها على الآخرين.
اضافةتعليق
التعليقات