يستهلك الدماغ نحو خمس الطاقة المستمدة من الطعام الذي نأكله لكي ترسل 100 مليار خلية عصبية إشارات كهربائية إلى بعضها بعضًا. وإذا افترضنا أن الدماغ كبير الحجم عديم الفائدة، فهذا يعني إهدار مساحة كبيرة من الرأس.
ولكن في الحقيقة كبر حجم الدماغ له بعض المزايا الجلية للعيان، نذكر منها أنه يجعلنا أكثر كفاءة في تنفيذ المهام.
فعلى سبيل المثال، عندما يفحص النحل مشهدًا، سيقسمه إلى أهداف ليختبر كل هدف على حدة، في حين أن الحيوانات ذات الدماغ الأكبر حجمًا ستمكنها قدراتها العقلية الإضافية من معالجة المشهد ككل. أي أننا يمكننا القيام بمهام عديدة في آن واحد.
فضلًا عن أن الدماغ الكبير يساعدنا على تذكر عدد أكبر من المعلومات، فبينما لا يستوعب ذهن النحل إلا بضعة روابط بين العلامات ليستدل بها على وجود طعام، ثم ما يلبث أن يلتبس عليه الأمر، فإن الحمام يمكن أن يتعلم كيف يتعرف على ألف و800 صورة، وبالطبع هذا لا يقارن بالقدرات المعرفية البشرية.
فيمكن أن يتذكر أبطال مسابقات الذاكرة، مثلًا، تسلسل الأرقام في الثابت "باي" (وهو النسبة ما بين طول محيط أي دائرة وقطرها) لما يصل إلى آلاف الأرقام بعد الفصلة العشرية.
ولكن ما هي المميزات الأخرى خلاف حفظ العديد من المعلومات؟
وصف داروين تميز الذكاء الإنساني بقوله إن عقل الإنسان يختلف عن عقول سائر الحيوانات "في الدرجة وليس في النوع"- وهو استنتاج قد يعده البعض مخيبًا للأمال.
لكن إذا نظرنا إلى الحضارة الإنسانية وكل ما أنجزناه من أعمال، لا شك أننا لدينا قدرة خاصة تفتقدها كل الحيوانات الأخرى.
فطالما تردد على مسامعنا أن الثقافة والتفوق التكنولوجي والإيثار وغيرها من السمات الأخرى دلالات على عظمة الإنسان، ولكن في الحقيقة كلما نظرت إلى الحيوانات من حولك، تضاءلت قائمة السمات التي تميز الإنسان عن غيره من الحيوانات.
فمن المعروف أن قردة المكاك اليابانية، على سبيل المثال، تلتقط الحجارة لتكسر الجوز، في حين تنحت الغربان التي تعيش في كاليدونيا الجديدة عيدان الشجر المقطوعة لتصنع منها كلاليب لتلتقط به الطعام، وكلاهما أسلوبان بدائيان لاستخدام الأدوات.
طائر العقعق
وهذا ينسحب على اللافقاريات أيضًا، مثل الأخطبوط المعرق الذي يجمع قشور جوز الهند، ويجرّها بجسمه في قاع البحر ليتخذها مأوى له فيما بعد.
وقد شوهدت أنثى شمبانزي في زامبيا وهي تضع قشة في إحدى أذنيها، ومن الواضح أنها لم تكن تضعها إلا لتبدو جميلة، وسرعان ما قلدها الكثير من قردة الشمبانزي في مجموعتها، كشكل من أشكال التجمّل التي فسرها بعض الباحثين بأنها إحدى صور التعبير الثقافي.
وقد اكتشف فريق "بي بي سي إيرث" مؤخرًا أن الكثير من الكائنات أيضًا يبدو أن لديها حس العدالة الفطري، وربما أيضًا تتعاطف مع الأخرين، وهذا يدل على وجود نوع من أنواع الحياة الغنية بالمشاعر، التي كان يعتقد سابقًا أنها حكر على البشر.
وهذا يذكرنا بحالة الحوت الأحدب الذي شوهد مؤخرًا وهو ينقذ حياة فقمة من براثن حوت قاتل، وهذا يشير إلى أن هناك حيوانات أخرى تؤثر الغير على نفسها.
ماذا عن التفكير الواعي؟
ربما تكمن الإجابة في "الشعور بالذات"، أي قدرة الكائن على التعرف على ذاته وتميزه عن غيره.
إذ يمثل الإنشغال بالذات أحد أسس إدراك الفرد لذاته وكل ما يحيط به. ويعد قياس الوعي الذاتي هو الأصعب والأكثر التباسًا من بين كل السمات المختلفة التي ينفرد بها البشر، باستثناء الاختبار الشائع الذي يتضمن وضع نقطة من الطلاء على الحيوان ووضعه أمام مرآة.
فإذا لاحظ الحيوان العلامة وحاول أن يحكها بيديه، قد نزعم أن الحيوان يتعرف على انعكاسه في المرآة، وهذا يدل على أنه بدأ يكوّن فكرة عن نفسه.
ومع أن الإنسان لا تتطور لديه القدرة على إدراك الذات إلا بعدما يبلغ 18 شهرًا تقريبًا، فقد ثبت أن عددا قليلا من الحيوانات يمكنها التعرف على ذاتها من خلال النظر إلى صورتها في المرآة، مثل قردة البونوبو، والشمبانزي، والأورانج أوتان التي يطلق عليها "إنسان الغاب"، والغوريلا، وطائر العقعق، والدلافين، وحيتان الأوركا.
هل نستخلص من هذا أن البشر لا يتميزون عن سائر الحيوانات؟
توجد قدرتان ذهنيتان ينفرد بهما الإنسان ولا ينازعه فيها منازع، ولكي ندرك هاتين القدرتين، فلننظر إلى تجاذب العائلة أطراف الحديث على مائدة العشاء.
بالطبع، القدرة الأولى هي أننا يمكننا التحدث من الأصل. فمهما كثرت الأفكار التي تجول بخاطرك والمشاعر التي تنتابك على مدار اليوم، ستجد الكلمات التي تعبر بها عن تجربتك وتصفها لمن حولك.
النحل
ولا يستطيع أي كائن حي آخر أن يتواصل مع غيره بهذه الحرية. وعلى الرغم من أن النحل يتواصل مع بعضه بعضًا بالرقصات الاهتزازية ليدلهم على المكان الذي تكثر فيه الأزهار أو ليحذرهم من وجود حشرة خطيرة، إلا أن هذه الرقصات لا يمكنها التعبير عن كل التجارب التي مرّ بها النحل.
أما لغة البشر، فهي على العكس تمامًا لا حدود لها. ومن خلال تركيب الكلمات في جمل لامتناهية نستطيع أن نفصح عن مكنون صدورنا أو حتى نضع قواعد الفيزياء، وإن لم نجد الكلمة المناسبة، قد نخترع كلمة جديدة.
واللافت للنظر، أن أغلب أحاديثنا لا تركز على الحاضر، بل تدور حول الماضي والمستقبل، وهذا ينقلنا إلى السمة الأخرى التي تميز الإنسان عن غيره.
إن قدرة الإنسان على تذكر عدد هائل من المعلومات، كما ذكرنا، تسمى الذاكرة الدلالية. أما الذاكرة العرضية، التي سيتحدث عنها توماس ساديندورف، بجامعة كوينزلاند، في مؤتمر "أفكار ستغير العالم" الذي تنظمه "بي بي سي فيوتشر" خلال الشهر الجاري، وهي قدرة الإنسان على تذكر الأحداث السابقة وكأنه يعيشها في ذهنه من جديد، ويتصور تفاصيلها بحواسه العديدة.
ويتمثل الفرق بين هذين النوعين من الذاكرة في أن تعرف أن باريس هي عاصمة فرنسا (الذاكرة الدلالية)، وأن تستطيع أن تستدعي في ذهنك المشاهد والأصوات من رحلتك الأولى لمتحف اللوفر في باريس (الذاكرة العرضية).
والأهم من ذلك أن القدرة على استدعاء الماضي تسمح لنا بتصور ما سيحدث في المستقبل. فربما تتخيل كيف ستقضي إجازتك القادمة باستدعاء التجارب التي مررت بها في رحلاتك السابقة، وهذا سيمكنك من تصور نوع الفندق الذي تفضله وتخطط للأماكن التي تود زيارتها وقائمة الطعام التي سترغب في تناولها.
ويبدو أنه لا يوجد أي حيوان آخر لديه هذه الذكريات الشخصية الواضحة والقدرة على التخطيط المسبق لسلسلة من الأعمال. حتى أن النحل لا يستجيب إلا للأوضاع الحالية فقط، بالرغم من كل الأعمال المعقدة التي يؤديها في الخلية. فلا تجد نحلة تتذكر كيف كانت تشعر عندما كانت يرقة.
إن القدرة على استدعاء الماضي جنبًا إلى جنب مع اللغة يمكناننا من مشاركة تجاربنا وآمالنا مع الآخرين، وبناء شبكات من المعرفة المشتركة التي تتسع مع تعاقب الأجيال، ولولاهما ما كنا عرفنا العلوم ولا الهندسة ولا التكنولوجيا ولا الكتابة، وإيجازًا، كل ما أسهم في خروج هذه المقالة إلى النور.
اضافةتعليق
التعليقات