خلف تلك التلة... يجلس محتضنا معطفه، يتنفس منه رائحة دفئه المفقودة، فوق ذلك المعطف غطاء سميك يمنع قرصات البرد التي تكوي بدنه الهزيل، حيث لايظهر منه الا تلك العينين التي ترصد الفراغ.
يعانق السلاح بيديه، يجلس وحيدا هناك، يبتعد عن صخب الوافدين، شرابه دمعاته، وطعامه حنينه، يقف على ابواب الماضي لايريه الا الفراق، يرفع نظره الى السماء يتأملها (ترى هل عثرتِ على جنتي أم اصعد اليكِ للبحث؟!).
لترسم له تلك السماء الملحمة التي يراها كل يوم، تعود به الى ذلك اليوم... الى تلك اللحظة التي فرقت بينهما قذيفة حيث هو مرمي على الارض رافعا رأسه اليها وهي تريد أن تتقدم لأخذه،
يشير لها بالذهاب، يسحبها رفيقه وعيناها تلاقي عيناه بأمطار الدموع وبذلك تُرسم له اللوحة الأخيرة .
قطع ذلك التأمل صوت اتاه من بعيد:
مهدي... ألا تاتي؟
نظر بحزن آثرا السكوت على ان يفجر رصاص ألمه، اقترب منه اكثر:
عزيزي مهدي وصلت قافلة تحمل عوائل كثيرة... قم معي لنبحث، علك تجدها.
يُجيب بإنكسار: لا اظنها على قيد الحياة فالجسد لايعيش بلا روح كم قافلة أتت ولم اجدها لا أريد الخوض في صراع القلق مع اللحظات.
صرخ رفيقه: كفاك يأسا يارجل لنبحث واعتبرها الاخيرة.
سحبه من يديه ونزلا الى حيث التجمعات، عوائل كثيرة وزغاريد اللقاء تُخيم على الأسماع،
وقف ورأسه يتكئ على كتف رفيقه يجول بنظره عله يجد ضالته، آيست عيونه فأعلنت الإنخفاض.
لحظات وسمع صوت يتحدث من ورائه مع رفيقه (تُرى.. اخيال هو ام حقيقة؟) رفع عينيه، تيبست قدماه، لم يستطع الحراك، (هل هذا سراب... هل أنا أتخيل...) عاش سرابه لايريد، ان يلتفت حتى لايزول ليسمعها تقول بنحيب: (هل رأيت ولدي، اسمه مهدي؟).
ابتعد رفيقه عن ظهره ليكشف لناظريها صورة ابنها... شعر بالفراغ بينه وبين الصوت، سمع صوتها تنادي (مهد) لم تكمل الإسم ليلتفت ويراها امامه. هي أمه بعد ثلاث سنوات من الفراق تقف امامه بصورة عجوز، ركض يقاتل الثواني، انحنى على قدميها يقبّلها، وهي تحاول رفعه لتحتضنه، يأبى الاّ ان يسجد على موطئها، تقبّل رأسه، ولا شيء سوى كلام الدموع، رفع رأسه ليرتمي في ذلك الحضن، خبأ وجهه فيه، غاص الى أضلاعها، لايريد الخروج. سجنته بكلتا يديها، تخاف من الفراق الذي خطف فلذة كبدها منها سنون ثلاث، تمتمت بكلمات عذبة خرجت من اعماق روحها... لك الشكر يا الله، لك الشكر.
اضافةتعليق
التعليقات