خضت على مدار حياتي منافسات شرسة عديدة في لعبة الكلمات المتقاطعة "سكرابل"، لكن ستة أشخاص فقط نجحوا في هزيمتي.
وكانت أمي من فرط تشجيعها لنا تكنى بـ "عداد السرعة"، وقد علّمت نفسي اللغة الألمانية عندما كنت في التاسعة من عمري لمجاراة أمي وأبي اللذين كانا يتحدثان 10 لغات في المنزل، فحسّ التنافس سمة متأًصلة في نفوس النيجيريين من بني جلدتي.
وفي الواقع، ترسخ الحرص على التفوق والتميز في وجدان النيجيريين، إلى حد أن شعار الدولة غير الرسمي أصبح "نيجيريا ستصارع لتكون في المقدمة".
وتبدو مظاهر هذا الحرص جلية، سواء في نيجيريا أو خارجها. فبحسب وكالة بلومبيرغ، أصبحت نيجيريا، التي تعد الدولة الأكثر اكتظاظا بالسكان في القارة الأفريقية، أكبر قوة اقتصادية في القارة، وتستحق عن جدارة اللقب الشهير "العملاق الأفريقي". وثمة نماذج مشرقة تشهد على النجاح النيجيري في المجال الأدبي والموسيقي، وحتى بين النيجيريين في المهجر.
وتصدّر النجم ويزكيد، الذي ينحدر من لاغوس، قائمة "بيلبورد" الأسبوعية للأغاني الأكثر شعبية بأغنيته "وان دانس" (رقصة واحدة) مع المغني دريك، وكان أول فنان أفروبيت تنفد تذاكر حفلته الغنائية في قاعة ألبرت هول الملكية بلندن.
وأنجبت نيجيريا أيضا وولي سوينكا، أول كاتب مسرحي أفريقي أسود يفوز بجائزة نوبل للآداب، وشيماماندا نغوزي أديشي، التي حازت روايتها "نصف شمس صفراء" على لقب أفضل رواية بين الروايات التي فازت بجائزة المرأة للقصص الخيالية في السنوات الـ 25 الأخيرة.
وبحسب معهد سياسة الهجرة، فإن 61 في المئة من النيجيريين الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة يحملون شهادات جامعية، وهذا يجعل الجالية النيجيرية واحدة من أكثر الجماعات نجاحا في الولايات المتحدة.
ولم يكن عشقي للعبة سكرابل للكلمات المتقاطعة محض مصادفة، فقد توجت نيجيريا بلقب بطولة جمعية لاعبي سكرابل باللغة الإنجليزية ثلاث مرات في السنوات الخمس الأخيرة.
وثمة فرص عديدة في نيجيريا تتيح للزائر مشاهدة النيجيريين يبذلون كل ما في وسعهم لتحقيق النجاح. فإذا تجولت في أرجاء نيجيريا، قد تلاحظ تجمعات من الطامحين في الفوز ببطولة سكرابل، يمارسون اللعبة في صالات متواضعة أو في مجالس نبيذ النخيل أو في المنازل. وقد صنفت الحكومة النيجيرية هذه اللعبة الفكرية رياضةً رسمية.
وستصادف حتما في سوق ووز بالعاصمة أبوجا النابض بالحيوية مشترين أذكياء يبذلون محاولات مضنية لشراء السلع بأقل الأسعار بالتفاوض مع التجار بلغتهم الخاصة، وهذه المهمة ليست يسيرة على الإطلاق بالنظر إلى أن هناك أكثر من 370 قبيلة في نيجيريا ويتحدث سكانها 500 لغة مختلفة.
وإذا حالفك الحظ، ورأيت (وسمعت) الزفاف النيجيري الصاخب، قد تلاحظ ملابس النساء الفاخرة التي تكشف عن مكانتهن الاجتماعية، بدءا من أربطة الرأس "جيلي" المرتفعة التي تكاد تطاول السماء، والأزياء الفخمة من أرقى بيوت الأزياء العالمية، والأقمشة المستوردة ذات الألوان الزاهية، والحلي الذهبية. وكل ذلك من مظاهر التباهي والتنافس.
لكن ما السر وراء هذا الدافع لتحقيق النجاح والتفوق على الآخرين؟
يغرس النيجيريون في نفوس أطفالهم في سن مبكرة الرغبة في تحقيق التطلعات الكبيرة. فنحن نتعلم منذ الصغر أننا ينبغي أن نختار الزوج أو الزوجة المناسبة، ونجمع شهادات عديدة ونجني ما يكفي من المال لنعتني بوالدينا في الكبر.
ويتحمل الطفل الأول النصيب الأكبر من هذه التطلعات، لأنه يفترض به أن يدعم أخوته الأصغر سنا أيضا. ويُرغّب الآباء والأمهات أبناءهم في المهن المربحة التي تعطي ممارسيها ألقابا مرموقة، كالأطباء والمحامين والمهندسين، ويحذرونهم من المهن غير التقليدية في المجال الفني.
ومنذ نعومة أظافرنا، دأب آباؤنا على سرد قصص وبطولات عن المحن التي كابدوها في الحرب الأهلية النيجيرية التي تعرف باسم حرب بيافرا، أو عن الديكتاتورية العسكرية في نيجيريا أو عن صعوبة الحياة قبل التخلص من نير الاستعمار البريطاني عام 1960. وما دام آباؤنا استطاعوا الخروج من هذه الأزمات وشقوا طريقهم نحو النجاح، فإن جيلنا الحالي، في عصر الإنترنت، سيكون قادرا حتما على تحقيق النجاح.
ويقول فيكتور بودي لاوسون، المهندس المعماري والفنان والمطور والمعلم بجامعة كولومبيا بنيويورك وينحدر من لاغوس: "إن الاعتقاد بأن الأطفال يتعين عليهم أن يكونوا أفضل من آبائهم في كل شيء، يمثل جزءا أصيلا في الثقافة النيجيرية. ولهذا يحمّس الآباء والأمهات أطفالهم ويدفعونهم نحو النجاح، وينمون لديهم الرغبة في التفوق".
وتسود المجتمع النيجيري النزعة الجماعية، إذ يلتزم النيجيريون بتحقيق النجاح من أجل رخاء الأسرة أو القبيلة وعزتها وازدهارها. ولهذا يحثنا المجتمع على أن نتفادى بشتى السبل مشاعر الخزي والخذلان المرتبطة بالفشل أو الإهمال. وخير دليل على ذلك أن نشيدنا القومي يتضمن تعهدا بتحقيق "الأهداف السامية والعظيمة"، وتذكيرا بأن "عناء أبطالنا في الماضي لن يضيع هباء".
وبحكم عمل أبي في السلك الدبلوماسي، كان يلتقي بانتظام برؤساء الدول، ولهذا كانت التطلعات في منزلي مرتفعة. وكانت تتوسط جدار غرفة المعيشة صورة لأبي مع الزعيم الراحل نيلسون مانديلا لتذكيرنا بالأهداف التي يمكننا تحقيقها. وقد قضيت سنوات طفولتي في ناميبيا وهولندا ونيجيريا.
وعندما انتقلنا إلى نيجيريا كان زملائي في سن السابعة يحفظون الجدول الدوري وينخرطون في أنشطة دراسية إضافية يومية ويواظبون على حضور دروس للقراءة بعد المدرسة والذهاب للكنيسة.
وتعد اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية في نيجيريا، لكن اللكنة الأجنبية تدل على مستوى التعليم العالي والثراء والنجاح. ولهذا يتعمد الكثير من النيجيريين تغيير لكنتهم للتباهي بمستواهم الثقافي.
وتطغى على أفلام نوليوود (السينما النيجيرية) موضوعات الارتقاء الاجتماعي والثراء والنجاح. وتخطت صناعة السينما النيجيرية هوليوود في عام 2009، وأصبحت الآن ثاني أكبر صناعة سينما في العالم بعد بوليوود، بإنتاج نحو 50 فيلما أسبوعيا. وقد حقق فيلم "حفل الزفاف" أعلى عائد حتى الآن بين أفلام نوليوود. ويتناول الفيلم ارتباط شاب ثري بامرأة من منزلة اجتماعية أدنى. وتستخدم أم العريس الثرية لكنة أجنبية متعالية بينما يستخدم والدا العروس اللغات المحلية.
غير أن حرص النيجيريين على نيل احترام الآخرين يدخل في صميم هذه التطلعات التي لا يحدها سقف. فالشعب النيجيري مثابر ودؤوب ويهتم بالمكانة الاجتماعية ويحرص على التفوق على الآخرين. ولا شك أن العمل الجاد يؤتي ثماره في هذا البلد الذي يتجاوز تعداد سكانه 195 مليون نسمة.
ويضطلع الكثير من النيجيريين بأكثر من وظيفة، وبعضهم يدشن مشروعات بجانب عملهم الرسمي لبيع الملابس أو الطعام. وكثيرا ما يستخدم النيجيريون ألقابهم المهنية عند التعارف حتى في المناسبات غير الرسمية. ولا يجدون غضاضة في توبيخ الآخرين في حال لم يحيوهم بشكل لائق. فينبغي مثلا استخدام الألقاب عند التحدث إلى كبار السن، مثل "خالة" أو "عم" إن كنت تعرفهم، أو سيدي أو سيدتي إن كنت لا تعرفهم.
لكن النجاح والمعارف ليسا ترفا في نيجيريا، بل أصبحا من ضروريات الحياة هناك. فكل شيء في نيجيريا يتطلب معارف، حتى إنك لو أردت مقابلة أمين الصندوق بالبنك ينبغي أن تكون على صلة بموظف هناك يساعدك في تقديم هدية أو دفع مبلغ مالي (أو بالأحرى رشوة) "لإرضاء" الموظف حتى يقضي مصالحك. ولهذا يجدر بالمسافرين أن يستفسروا في الفندق أو من أصدقائهم إن كان لديهم معارف لتسهيل هذه العملية. فتحقيق الأهداف في نيجيريا يقتضي أن تكون "شخصا مهما" أو "ابن شخص مهم".
ويرى دكتور جيمس ييكو، الأستاذ المساعد لعلم الإنسانيات الرقمية الأفريقي بجامعة كنساس، أن المعاناة التي كابدها النيجيريون هي التي ولدت لديهم هذا الشغف بالنجاح. ويقول: "إن النيجيريين الذي يدركون هشاشة البنى التحتية استطاعوا أن يصبحوا من أفضل رواد الأعمال في العالم ويتباهون بإنجازاتهم لتأكيد جدارتهم بالنجاح".
وتقول كيمبرلي إهيكوابا، محررة الإعلانات النيجيرية: "إن معظم النيجيريين مجدون في عملهم، لكنهم منشغلون دائما بعقد المقارنات مع الآخرين. ولا شك أن هناك دائما من هو أفضل وأذكى منك".
ويرى أفام أونيما، الأمريكي من أصول نيجيرية، والذي صنفته مؤسسة "وورلد ريميت" واحدا من أكثير الأفارقة المهاجرين تأثيرا في الولايات المتحدة، أن هذا الدافع وراء تحقيق النجاح تعليميا ومهنيا يرتبط بالتفاؤل الذي اشتهر به النيجيريون. ويقول: "عندما تكون الثقافة إيجابية إلى هذا الحد رغم قساوة الظروف السياسية وتردي الأوضاع الصحية والاجتماعية، فإن التفاؤل هو الذي يدفعك ويلهمك لتوقع النجاح تحت أي ظرف".
وقد تتجلى روح التفاؤل في معاني الأسماء النيجيرية، مثل بركة، ورحمة وتوفيق، وسعيد. وفي عام 2011، نالت نيجيريا لقب الشعب الأكثر تفاؤلا للعام الثاني على التوالي في استطلاع غالوب. ويؤمن النيجيريون بأنه مهما اشتدت الصعاب، فإن دوام الحال من المحال، بحسب المثل الشائع.
لا شك أن النيجيريين تدربوا على العمل الشاق والمنافسة الشرسة، وقد يبذلون أقصى جهدهم لتحقيق الفوز، والتفوق على الآخرين حتى في لعبة سكرابل. حسب بي بي سي
اضافةتعليق
التعليقات