أكتب عَن من لا يَنتبه لَهم العالم، ولا يلتفت الحَظ إليهم، تداخل الايام اهلكهم، فباتوا يستجدون الموت، كذلك العجوز العازِب، يُبدع يَومياً بـخلق شَريط زفاف مَعدوم ممن هام بها عشقاً، يظُن الجميع إنه نَسي، لكِنها تعيش بِخلاياه، وبِداخل كُريات دمه، يفصله عنها شارع، ورَجل وَهو يعيش على أوهام تقوده للهاوية.
و فتاة تقضم اظافرها بِهوس، تحاول إيقاف حروب في رأسها، تلملم حُزنها وتختبئ، "مريضة نفسياً" تشطر املها لألف قطعة، من يخبرها أحد من قبل بإنها "جَميلة"، وأن فُستانها يليق بِها كثيراً، و لم يُثني والدها على درجاتِها المدرسية، وصاحت بها والدتها بأنها غبية، أو ربما عديمة النفع لأنها ارادت يوما أن تمسك قلما وتكتب وتثور! حتى تجردَت من كُل الاحاسيس، وغاصت بـ روتين يومي مكرر..
وفَتى متخبطٌ في تجاويف الحياة، تائه بوسعها، في جُعبته احلام لا حصر لها، لكنه يجهل طريقها، انشغل عنه من حوله فأطوى ما بجعبته ومضى كما يسيرون.
شاب في العشرين من عمره، اعتاد الحزن حتى بات يتنفسه، يلملم قطع احلام فتتها الواقع، ينزف بلا دماء، يلتفُ حول قلبه شيء يشبه ملامح الموت، ليعلق في الأفق الفاصل بين السماء والأرض..
وبريئة تسأل يومياً بإلحاح: أخبرتني جدتي ان والديّ يسكنان السماء، لماذا؟.
هل هما لا يحبانني؟ لماذا لا اسكن بجوارهما، انا لست كبيرة لن آخذ حيزاً كبيراً بين الغيوم، أعدكم لن أصدر أي ضوضاء.. وتنهال على الحاضرين بجموع وعودٍ مقابل تنفيذ طلبها، لم يستطع كُل من صادفت أن يُفسر، يُقنع، او ينفذ!
أُم تتابع طفلها ذو الاربع سنوات يركض ويُشير للسماء مُلوحاً لطائرات عسكرية، تختفي وتظهر بين الغيمات منذ ساعات متتالية، أصوات غريبة، مخيفة وتحمل الموت، تُفرغ حمولتها من الصواريخ صوب الارض، يتعانق الدم والياسمين في صفوف فوق المقابر الجماعية..
فتى ذَبُلت زهرات عُمره، منذ اختطاف والده، كلما لَمح ظله، جرى خَلفه محاولاً الامساك بـ سراب، تَجوب ذاكرته كلمات والده بأنه سيكون سَنداً و كـظله لَن يفارقه أبداً وأنه هناك دوماً الى جانبه لحمايته، يندفع ارضاً بغية احتضانه، وفي كل مرة اسوأ من سابقتها يكسب خدوشاً وجراحاً تملأ ملامحه الباهتة وتزيده أسى وأنينا، والكثير مِن اليُتم.
فقيرة حَظ تنام أغلب يومها لأن أحدهم أخبرها "مَن تحبيه، سَيزور أحلامك يَوماً"، ولكن لَم يزرها من تَترقب منذ أربع سَنوات!..
مُهشّم الحُلم يجلس بين قبرين، يقبّل كُل منهما ثم يضع وردة حمراء على يمينه وأُخرى بيضاء على يساره، يشهق بقوة، فـيتمتم بكلمات عتاب لوالديه: (إنتو ليش عفتوني؟ هواية استعجلتوا والله، زين ما كدرتوا تنتظرون أسبوعين بس، والله بس أسبوعين حتى تطلع نتيجة السادس بس تشوفوها، يمكن تفرحون أنتو مو حلمكم اصير طبيب؟ والله تحقق الي تريدوه بس كعدوا شوفوا، هاي النتيجة جبتها هسه من المدرسة، بابه، مامه، بابا أكعد).
وَحين يَمل النداء والأنين، يحفر بأصابعه في التراب ثم يدس الورقة بقوة ويُغلق عليها، (أخذوها يمكم، مااريد الطب أني، بدونكم ما تسوى).
يلتفت يئن بعد أن قام بـ "وأد" طموحُه، يزفر بقوة عَلى الحياة، يخرج من جَسده، يكمل سيره بخطى متثاقلة كي يُكمل عَمله في ورشة تصليح السيارات التابعة لـ "عمه"..
تنتهي من وضع طلاء الاظافر باللون الذي يُحبه عند صراخه امراً اياها أن تلحقه بسرعة، في الطُرقات تلف يداها حول ذراعه، ينهرها بقوة رافعاً يده اليسرى في وجهها ثم يبعد جسده قليلاً،
يجذبها خُلو أصبعه مِن خاتم ارتباطهما، تتلألأ كُتلة نَدم فِي عينيها الواسعة، غرقت في امواج الخَيبة حَين ترى رأسه يدور بالكامل ملاحقاً فتاة مَرت بالقرب، تركض بِعكس الاتجاه فلا يَنتبه لابتعادها، (يا يمه تحملي وأصبري عليه، لعد يتركج وترجعين يمنة، شيكولون الناس علينه؟)..
كعادة كُل مَرة تَعودُ القِطة ذليلة لصاحبها، فيركلها بقوة أكبر، ربما حتى يأكل الموت أحشاءها فترتاح.
اضافةتعليق
التعليقات