عندما فكرت ان اختار حديث او مقولة للأمام علي (ع) لأكتب عنها بمناسبة عيد الغدير الاغر اخترت مقولة (فقد الاحبة غربة)، هكذا نحن العراقيون حتى في ايام الفرح نكتب عن احزاننا!!
غرباء هم الذين فقدوا احبتهم.. هكذا وصفهم الامام علي (ع)، اجابتني وصوتها تخنقه زفرات الالم بعد ان طلبت اليها ان تروي لي حادثة (الشهادة والولادة) كما اسمتها.
لم يكن صدور قرار دوائر الدولة بتفريغ موظفيها من العمل لمن اراد الالتحاق بجبهات القتال بعد، ماجعله يقدم استقالته..
قرار علي للألتحاق بمجاهدي الحشد لم يفاجئ الجميع فإن من يعرف علي جيدا لن يستغرب انه ترك الدنيا بما فيها من ملذات ولبى نداء الوطن وراح يسعى وراء الموت بخطوات سريعة.
علي، كان يعمل مساعد طبيب فالتحق بالمجاهدين على انه مسعف لجرحى الحشد، فأسعف البعض وانقذ البعض الاخر ولكنه سرعان مااكتشف ان طريق الشهادة لايزال بعيدا عنه مادام هو بعيد عن المعركة..
شكل علي مع اصدقائه مجموعة من ثلاثة اشخاص يخرجون ليلا للتصدي والوقوف بوجه الاعداء الذين يتسللون خلسة لغدر ابطال الحشد الشعبي..
كان علي في كل ليلة يستعد استعداد المغادر دون رجعة فيودع اصدقائه ويتصل بزوجته قبل الذهاب الى الخطوط الامامية للمعركة ليطمئن على صحتها فقد كانت حامل في ايامها الاخيرة، وعما قريب ستضع مولودا وسيكون ذكرا.
امر الولد لم يثنِ علي عن عزيمته ولم يجعله يشعر بالخوف على مستقبل الولد فأن التي عاشت طوال حياتها يتيمة ستعرف كيف تتعامل مع الايتام وتربيهم.
ولكنها قلقة اكثر بشأن اليتم تخشاه اكثر من اي وقت مضى، عندما كانت صغيرة كانت يتيمة الابوين فاحساس اليتيم الذي عاشته لايوصف..
زواجها من علي انساها حالة البؤس والشقاء التي قاستها طوال سنوات من عمرها فكان علي عالم جديد اخرجها من عالم مظلم جعلها تنسى الحرمان الاسري... والعاطفي... والمادي... تشعر وكأنها لم تعش من تلك الاعوام الطوال في هذا العالم سوى هذه الاعوام الثلاثة التي كانت مع علي، مرت بها كما يمر النجم الدهري في السماء الدنيا ليلة واحدة ثم لا يراه الناس بعد ذلك.
هل ستصبح يتيمة من جديد؟ سؤال يراودها كثيرا هذه الايام، يقض عليها مضجعها ويؤرقها..
تسمع طرقات خافتة على الباب (يالة فرحتي انه علي).. (لم اكن اتمنى سوى رؤيته مجددا) ولكن التعب والسهر غير الكثير من ملامحه، تلك العيون الواسعة ذبلت من سهر ليالي شتوية طويلة، وجهه الحنطي اصبح يميل للأسمرار اكثر..
دخل الى غرفة ابنته يمشي على حذر يخشى ان يوقضها فتتعلق بأقدامه لتمنعه من الذهاب الى الجهاد، وجدها نائمة محتضنة صورته بين ذراعيها، تمتم بكلمات اعتذار لانه ليس بجانبها ولم يأتِ لرؤيتها منذ مايقارب الشهر... ولكنه مطمئن بشئنها فوالدتها تهتم بها كثيرا.
لم يمكث طويلا وسرعان ماعاد من حيث اتى لو لم تكن تعرفه جيدا لظنت انه لم يعد يرغب بالعيش معها ولكنه لايهدء له بال ولا يغمض له جفن منذ ارتفاع صوت الوطن بالاستغاثة وصدور فتوى الجهاد الكفائي.
لم ينجلِ سواد تلك الليلة الا وغادر قبل طلوع الفجر،
لقد كانت الليلة الاخيرة وينتابه شعور الالتحاق بركب الشهادة جاء مودعا ابنته وزوجته..
فكانت الليلة التي تليها هي ليلة استشهاده على يد الطيار الامريكي الذي رصد بطولاته وحصده لأرواح الدواعش فصوب الهدف باتجاهه وقد كان جريح تارتةً يضع يده اليسرى على كتفه الايمن فيسيل الدم من بين اصابعه واخرى يأخذ من دمه فيخضب هامته تيمننا بمن الهمه الشهادة وسار على نهجه.
ليلتها علمت زوجته انه غادر عالم الدنيا ليحيا حياة ابدية، حتى وان لم يستشهد بعد فقد اصبح على مقربة منها،
كانت ليلة موحشة اشبه ماتكون بالليلة الاولى من النزول الى القبر بالنسبة لزوجته، كانت تختنق تحاول عبثا ان ترى بوضوح ولكن الدموع تحول دون ذلك، يأكلها حزن شديد تحاول ان تصرخ ان تقول شيئا ما لكنها تشعر انها فقدت لسانها، وكأن كابوس اليتم يتربص بها وينقض عليها وتدافع بما لها من قوة ولكنه يدنو منها كل ماحاولت الابتعاد،
ترى سنوات مظلمة تقترب منها وترى انها في وسطها متشحة بالسواد، وسنين مشرقة تلوح مودعة وكأنها اصبحت غريبة لاناصر لها ولا معين.
لم تستطع الانتظار حتى الفجر لتتصل به كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل كان البرد شديد ودرجات الحرارة منخفضة لما تحت الصفر رن الهاتف وتعالت دقات قلبها اكثر كانت تحدث نفسها (لو لم يجيب هو ماذا سأفعل) ولكنه اجاب بأنفاس متقطعة وبصوت يختنق (نعم حبيبتي) شعرت بالفرح لمجرد سماع صوته ولكن ثمة شيء، (مابك عزيزي) كان رمي الرصاص الى جانبه كحبات المطر التي تتساقط على ارض صلبة فتصدر اصوات كثيرة، استحلفته ان يخبرها، اجاب انه جرح بكتفه الايمن وانه بخير حتى انه لايزال يقاتل، ترجته ان ينسحب وعدها سيفعل عندما يجمع اصدقائه.
اغلقت الهاتف وراحت تصرخ من الالم انه الطلق ولكن الام قلبها اشد وقعا من الام المخاض بكثير، وضعت يدها على بطنها وراحت تحدث الجنين (بني اهدء ارجوك دعني اطمئن على والدك اولا) اشتد الالم..
ولم تكن لها طاقة على الولادة ساءت حالتها ونقلت على اثرها الى المستشفى..
وبعد ساعات قليلة كان ظلام الليل قد انجلى ولكن ظلام قلبها لم ينجلِ الا بسماع صوت علي، فتحت عينها وجدت صغيرها الى جانبها صرخت (ناولوني الهاتف لأتصل بعلي لاطمئن عليه واخبره اني ولدت حتى يختار للمولود اسم) رن الهاتف كثيرا فلم يجيب..
وعاودت الاتصال مرات عديدة اوهمت نفسها انه نائم او انه لم يسمع الهاتف تحدث نفسها:
..( بعد قليل سيعاود الاتصال بي)
لم يمر الا القليل من الوقت حتى عاود الاتصال ولكنه ليس علي صعقت عند سماع صوت رجل اخر يتحدث من هاتف علي!!
اخبرها المتصل انه احد رفاق علي وان علي نال الدرجات العلى ونال ماكان يتمنى، مضى شهيدا، بطل قتل الكثير من الاعداء على مدار اشهر في كل ليلة..
وانقذ الكثير الكثير من الجرحى المجاهدين، علي التحق بالرفيق الاعلى شهيدا منذ ساعة وهو يبلغك السلام ويقول سمي المولود (حسين).
اخذت صغيرها تتحسسه وهمست له ودموعها جارية:
ولدي ان اباك استشهد ساعة ولادتك فشعرت حينها انك لم تطلق صرخة الحياة كباقي الاطفال بل صرخت ملبيا للوطن..
كذلك يعبث الدهر بالأنسان مايعبث ويذيقه مايذيقه من صنوف العذاب والوان الالم حتى اذا علم انه قد اوحشه وارابه وملأ قلبه غيظا ولم يعد بمقدوره تحمل الغربة يكاد يهلك من شدة مانزل به اطلع له في تلك السماء المظلمة المدلهمة بارقة امل فسترده بها كذلك استردني الزمن بك ياولدي بعد ان عشت ايام سعيدة انتهت بشهادة ابيك).)
اضافةتعليق
التعليقات