في صباح يوم الثلاثاء وبعد الانتهاء من الزيارة جلست اتكئ على جدار للصحن الشريف و سبحة تطوق معصم يدي، كتاب مفاتيح الجنان بيميني، وبعيني كلمات ترحل نحو الضريح المبهج، بين عالم الدنيا و الآخرة تلك روحي عانقت المكان، صوت امرأة تنحب وتصرخ، استدرت ابحث عن صدى الصوت، من هذه المرأة؟ لعلها أم فقدت ولدها في المعركة، أو زوجة فقدت زوجها، رجعت ومازال الصدى يطرق أذني، رجع الصوت كرة ثانية، الكل يلتفت نحو الباب الخشبي الكبير، كما ظننت أنها امرأة كبيرة في العمر تضرب الباب بيدها بقوة، ونداء من قلبها: يا علي..
رفعت بصري إلى القبة الشريفة ورددت معها ياعلي، دخلت مكسورة الخاطر لا أصدق أنها امرأة مفجوعة حتما، اقتربت من الضريح تخط أقدامها، استغفرت ربي وبقول يا علي فتحت الكتاب، ابحث عن زيارة أمين الله، عادت صرختها مرة أخرى، لكن هذه المرة ليست بالبكاء بل كانت صرخة عتاب ولوم: ((يا علي ظلموني واتهموني وانت من يرد عليهم))، ارخت شالها وافترشت عباءتها، تبث شكواها وتجير من حمى جاره، لعل ظلمها يرفع كما رفع الباب الذي عجز عن رفعه الأربع والاربعون، توقفت عن الزيارة، فصوتها كان يملأ المكان، " ياعلي" ايتامي تنتظر منك أن تعينهم فأنت الأب الحامي، والحاكم العادل، منذ ثلاثة أيام ونحن على الرصيف لا بيت يحمينا ولاخيمة تسترنا، طردنا صاحب البيت بعد سبع سنوات من الإيجار، لا أملك زوج ولا آب، وليس لي مأوى ولا ملاذ غيرك ياعلي.. ياعلي..
بين خضم الحياة ومعتركها وجدت من يسمعها، فقد عرف عنه الكرم بعطائه وشاملا بملاذه حتى الأموات يلوذون بواديه، جلست تنتظر الإجابة، عدى صوتها جوقة الاحزان، جالسة في رواق الإنتظار وحولها الكثير من الهموم، أراقب عيناها الحائرة بكل شغف، ويداها الجائعة ترتجف، وإذا بصوت ينادي من داخل القبر "ياعلي" وضج الزائرين بهذا النداء، حملت ما كان قد تراكم على قلبها، وتساقط من عمرها، وبينما هي تحاول أن تلملم نفسها بعدما اعترتها رعشة الإجابة ، وإذا بها تتجمد عيناها، وما أن أبصرت حتى سكن كل شيء، وراحت تبادل النظرات والخجل قد طبع لونه على وجنتيها، و ضمت بين يديها حاجتها، راحت تدنو إليه شيئا فشيئا..
وألف علامة استفهام وتعجب تدور في رأسي، وما أن أصبحت على مقربة مني، وقد امالت برأسها وهي تنظر في عيني، واستدارت عني مبتعدة، تتبعها عيوني وخفقات قلبي، أختصرتُ كلَّ خيباتي بنظراتها البريئة، سكون مطبق، رغم الضجيج الذي يصدر من الزائرين، فاحت روائح أزهار وعبيق من الجنة، وبينما الكل مشغول في الزيارة والصلاة، ولازالت علامات الإستفهام مرسومة على وجهي، استرجع في ذاكرتي المواقف وهي لا تزال تتعبني، فكثيرا ما أردد يا علي، لكن لا اخفي عليكم ليست بهذه القوة.
ساد الصمت للحظات، وأطرقت خجلا للحظات من صاحب المقام لأنني لم أعرف كيف أنادي ولا كيف اطلب، ثم طويت الكتاب، تراجعت خطوة إلى الخلف وانا في حيرة من أمري، وعيناي شاخصة على الضريح، مددت يدي وأخذت الكتاب وضممته إلى صدري بين ذراعي، وعلى محياي بسمة فرح وخجل، وكان ماحصل عبرة لي، ازدحم المكان، ثمة سيدة متوسطة في العمر تقف عند الباب توزع على الزائرين، ورقة بيضاء كتب عليها خواص اسمه الشريف " يا علي" وهذا ما كتب فيها:
_من ضاق عليه الرزق: كل يوم الف مرة يردد ياعلي، حتى يفتح الله عليه باب الرزق والاستغناء عن الناس.
_ومن كتبه وهو على وضوء في كفة الايمن بعد صلاة الفجر ولحسه على الريق صنع ذلك سبعة ايام حفظ كل مايسمعه ولاينساه.
_ومن كتب بإصبعه (علي) على صدره قبل النوم لم يحتلم.
_ومن كتبة مائة وعشر مرات في طبق وشربه على الريق امن من الجوع.
_ومن خواص اسم امير المؤمنين علي، إن من اتخذه ورداً
لايعتريه السقم طوال حياته ولا يطيق النظر إليه إجلالاً له فهو يخضع جميع الارواح ويحيي الروح الباطنية، ومن قرأه على مريض عجز الاطباء عن علاجه برئ مالم يحضر اجله.
_ومن كتبه على باب الدار امنت الدار من الخسف وأهلها من البلاء.
_وإذا كتب على محلّ كثر بيعه وكثر ربحه.
_ومن كتب الاسم الشريف على سفينة أمنت من الغرق ببركة هذا الاسم الذي كتبه الله تعالى على الكرسي واللوح والماء وغيره كما في الروايات.
_ومن كتب في ورقة قوله تعالى: ( رب هب لي حُكماً وألحقني بالصالحين)
وتوسل بامير المؤمنين علي وعلّقها على رأسه وتوجّه في أي حاجة قضيت
بإذن الله وهو في مأمن من كل مكروه..
فهو اشرف الاسماء علواً وارتفاعاً فلا تتعجب من فوائده واسراره..
أكملتُ الزيارة الشريفة: (( اَللّـهُمَّ اِنَّ قُلُوبَ الْمُخْبِتينَ اِلَيْكَ والِهَةٌ وَسُبُلَ الرّاغِبينَ اِلَيْكَ شارِعَةٌ وَاَعْلامَ الْقاصِدينَ اِلَيْكَ واضِحَةٌ وَاَفْئِدَةَ الْعارِفينَ مِنْكَ فازِعَةٌ وَاَصْواتَ الدّاعينَ اِلَيْكَ صاعِدَةٌ وَاَبْوابَ الاْجابَةِ لَهُمْ مُفَتَّحَةٌ وَدَعْوَةَ مَنْ ناجاكَ مُسْتَجابَةٌ وَتَوْبَةَ مَنْ اَنابَ اِلَيْكَ مَقْبُولَةٌ وَعَبْرَةَ مَنْ بَكى مِنْ خَوْفِكَ مَرْحُومَةٌ وَالاْغاثَهَ لِمَنِ اسْتَغاثَ بِكَ مَوْجُودةٌ وَالاْعانَةَ لِمَنِ اسْتَعانَ بِكَ مَبْذُولَةٌ وَعِداتِكَ لِعِبادِكَ مُنْجَزَةٌ وَزَلَلَ مَنِ اسْتَقالَكَ مُقالَةٌ وَاَعْمالَ الْعامِلينَ لَدَيْكَ مَحْفُوظَةٌ وَاَرْزاقَكَ اِلَى الْخَلائِقِ مِنْ لَدُنْكَ نازِلَةٌ وَعَوآئِدَ الْمَزيدِ اِلَيْهِمْ واصِلَةٌ وَذُنُوبَ الْمُسْتَغْفِرينَ مَغْفُورَةٌ وَحَوآئِجَ خَلْقِكَ عِنْدَكَ مَقْضِيَّةٌ وَجَوآئِزَ السّائِلينَ عِنْدَكَ مُوَفَّرَةٌ وَ عَوآئِدَ الْمَزيدِ مُتَواتِرَةٌ وَمَوآئِدَ الْمُسْتَطْعِمينَ مُعَدَّةٌ وَمَناهِلَ الظِّمآءِ مُتْرَعَةٌ اَللّـهُمَّ فَاسْتَجِبْ دُعآئي وَاقْبَلْ ثَنآئي وَاجْمَعْ بَيْني وَبَيْنَ اَوْلِيآئي بِحَقِّ مُحَمَّد وَعَلِي وَفاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ اِنَّكَ وَلِي نَعْمآئى وَمُنْتَهى مُنايَ وَغايَةُ رَجائي فى مُنْقَلَبى وَمَثْواي)).
وبين قبلات المحبين تركت قبلتي على بابه وردت هذا الدعاء: اَنْتَ اِلهي وَسَيِّدي وَمَوْلاي اغْفِرْ لاِوْلِيآئِنا وَكُفَّ عَنّا اَعْدآئَنا وَاشْغَلْهُمْ عَنْ اَذانا وَاَظْهِرْ كَلِمَةَ الْحَقِّ وَاجْعَلْهَا الْعُلْيا وَاَدْحِضْ كَلِمَةَ الْباطِلَ وَاجْعَلْهَا السُّفْلى اِنَّكَ عَلى كُلِّ شَىءْ قَديرٌ.
فقد ورد عن الباقر (عليه السلام) ما قال هذا الكلام ولا دعى به أحد من شيعتنا عند قبر امير المؤمنين (عليه السلام) أو عند قبر أحد من الائمة (عليهم السلام) الاّ رفع دعاءه في درج مِن نور وطبع عليه بخاتم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان محفوظاً كذلك حتّى يسلّم الى قائم آل محمّد (عليهم السلام) فيلقى صاحبه بالبشرى والتّحيّة والكرامة ان شاء الله تعالى.
اضافةتعليق
التعليقات