رغم كل الظمأ المرتجف له كبد السنين، ورغم فخاخ الموت التي نصبت على عقبات الزمن، رأيناه ينهض من جديد، ليبعث في الأمة ويبث فيها من روحه المقدسة فتطهر الأرواح وتنتزع بالي ثيابها.
لم أعلم أيهم يتباهى بدره المنثور؟ هل السماء بما تلألأت ام الارض بنجومها السائرة على نعيم صراطه.
لم يسبت على طريقه ليل ولم ينتزع من سواده سكون ولم تتغشى الأبصار غفلة الراقدين، سارت الأقدام بخطوات الثابتين على زحاليف الطفوف، كل شبر من هذه الأرض تروي ملايين الحكايا.. حتى أنني لم استغرب حينما اخبرتني السيدة المؤتزرة انها تقطع الحد الفاصل بين الغري ونينوى بعشرة ايام! لعلها تغترف أكثر وتتزود بما يثبت الفؤاد ويسكن الروح ويصل بها إلى يقين الناظرين.
لهجت الروح بمناجاة الذبيح.. واستنشقت عبق التراب.. فهو الدرب الذي لثم خطوات صغيرات الاسارى.. وأبت بعض ذراته النزول من أقدامهن بل راحت تغطي شخوصهن بهالة طينية لعلها تسدي لهن معروف ما..
صدى صوت المرأة يتردد (ها انا أسير قبيل منتصف الليل لا حامي لفتياتي.. ولا كفيل.. ماذا عساي أن اجيب إذا ما داهمهن غريب.. أو نظرت لهن عين.. اه يا سيدة الدرب والمحن.. ها انا اتذوق بعض لظاك.. واكتوي ببعض لهيب آهتك الحيرى..).
رغم اشتداد الريح التي تنكهت بعطر أصوات تحرس الطريق بكل ما أوتيت من غيرة وأباء وتجود بكرم وعطاء.. فتتداخل رائحة الشاي.. مع الأرز المدخن وتفوح القدور بأطعمة الملوك وفواكه الأمراء لتسقى الحرائر بأكواب ممزوجة بشراب عفيف فتروى الضمائر قبل المهج.
تعانق الروح والجسد.. فنبض القلب بنبض عاشوراء.. كل تلك الصور جعلت السيدة المؤتزرة تنصهر بحنين كرب وبلاء.. دارت بها الأرض.. دوار يتبعه وصول..
لم يكن أمام فتياتها إلا البحث عن أقرب حسينية على جانب الطريق لعلها تستريح من تقاطع الأنفاس ويرعوي خفقان قلبها عن الهروب..
تمددت وسط مخيم باسم الامام الرضا عليه السلام.. مرت اللحظة ثقيلة بثقل لامت حرب وحادة مثلمة كسيف كسر شبى حده.. ركضت إليها النسوة.. بكف سقيى وكف الحنان..
ارتجفت الشفاه ومعها بقية الأعضاء.. غارت العينان.. حتى الدماء تتثاقل بسيرها في الأوعية المثخنة بتجلطات الهموم..
تلاغطت الأصوات واحتارت الأفكار.. ما الذي يحصل الآن.. مدت السيدة يديها.. واسبلت قدميها.. لكن لسانها بقي يصدح (يا حسين.. بأمك الزهراء تقبلني).. وصل طبيب المخيم الحسيني.. أجرى بعض الفحوصات.. لم يتوصل إلى شيء.. أخذ الجسم الهزيل يرتجف بقوة.. كورقة خريفية تقلبها الرياح.
لم تعد تستشعر باقدامها.. ها هي الروح تسحب من الأحداث.. تزحف ببطئ نحو الجزء الأعلى من الجسد..
_ هل ستنال مناها؟. هل تم اللقاء؟. هل ستطبع الروح آخر بصماتها على درب سرمدي؟.
لم يغادر السرور بصيرتها.. رغم ضجيج الهواء الذي يخترق المخيم كانت مطمئنة وهي تلوذ بسيدها فتحصد ثورة البركان بترديد (اشهد ان لا الله الا الله وأشهد أن محمد رسول الله)، لتقطف مزيدا من الأماني مع (وأشهد أن علي ولي الله)، كيف لا وهي جائتك تسعى من فجاج الظلمات لتنسج من نورك رداء ضيائها فتسافر نحو السماء بألق الشفاعة، ولتغمر الأرواح بنظرتك الحانية..
نعم كما تعودناك بحر للندى تأبى إلا ان تكون عنوانا للحياة.. ومع اول زخات مطر.. وفي أول لحظات السحر طبعت خطواتها على رأس الطريق.. بعد أن قامت واستوت واقفة كنخلة تحتضن فسائلها الأربعة وهي تقول: (سأنتظر من جديد أربعين آخر للقاء أتم واكمل).
اضافةتعليق
التعليقات