صغيرة تلاعب سنابل القمح، تراقصها نغمة العصافير وهي تحلق من غصن الى آخر، خيوط الشمس تغازل زهرة القرنفل فتميل معها، الفراشة تفتح جناحيها الملونة بلون الطيف، كلوحة ملونة تجذب الناظر إليها، بكل ما فيها من تناسق الألوان وابداع الصانع فيما صنع، تعرف الصغيرة في القرية بذات الجدائل الذهبية، فخصلات شعرها من ذهب وعينها من الياقوت الازرق، وصفاء بشرتها كسماء صافية، الثغر يحلو في ملامحها كما يحلو القمر في ليلة ظلماء، محبوبة في قريتها، صوت ضحكتها كأنه شعاع يضيىء عتمة القرية.
تخرج في الصباح الباكر حاملة معها عصا وقاروة ماء وكسرة خبز، وخلفها يسير الغنم والماعز، تهش على الغنم فيعرف ما تقصد، الطريق نحو العشب الخضر لا يبعد كثيرا عن قريتها، وتألقت السعادة في قلبها عندما لامستها دعوات أبيها لها، وأمها العاجزة عن القيام بهذه الاعمال، كانت تفتش عما يسعد أبيها وامها، فتقوم به وإن كانت الأعمال شاقة عليها.
بين الحقول الخضراء تحمل القصب على كتفها فينحني ذاك الكتف من ثقل القصب، تجلس عند حافة النهر لتستريح وترمي ثقل حملها عنده، فيزول عند اول قطرة ماء تدخل في جوفها، قبل غروب الشمس تعود حاملة معها باقة من الورد وبعض أعواد الخشب لتوقد النار فمازالت أمها من دون طعام..
لا تقوى على حمل الاناء الكبير المخصص لطهو الطعام فتجعل أكوام من الخشب تحت اقدامها وتقف، تسأل امها عن كيفية اعداد الطعام، وترتل امها عليها..
ترغب في اعداد حساء العدس، فهذا الطبق المفضل عند ابيها وامها، لأنها وحيدة لم يرغب القدر في أن يكون لها اخوة...
تقترب من الانتهاء من اعداد الطعام، الطعام اصبح جاهزا، تبدأ بتجهيز المائدة؛ قطعة من القماش المرقع وثلاث صحون من الخشب وبقايا من الخبز الاسمر، قارورة من الماء على الجنب، رائحة الحساء تلاعب أنف والدها الذي كان يخيط ردائه العسكري قرب السراج، صوت امها كان يرتفع ويختفي قليلا، جلسوا قرب الام يتناولون الطعام، الأب يطعم زوجته العاجزة والطفلة (حميدة) تمسح الطعام المتساقط من فم امها، تجتمع الهموم على أبيها كما تجتمع الغيوم في السماء، كيف يترك ابنته وزوجته العاجزة ويذهب الى ساحة القتال، وماذا سيكون جوابه إن لم يذهب، تمور الافكار في حلقة رأسه، وتطارده الاحزان من كل جانب..
بلحظة افتقد صوت ابنته (حميدة)، نظر إليها وجدها نائمة، متعبة منهكة، أصوات انفاسها المتسارعة تحكي قصة طفولة لم تبدأ بعد، يدق اديم السكون في الدار، وضجيج من الحكايا تدور في رأس الاب.
أوقد نار المدفئة وجلس بالقرب منهم، ولكن باله كان بعيدا عنهم، اقترب من ابنته، ترك على وجنتها قبلة رطبة لعلها تزيل قسوة الايام، يطيل النظر في تفاصيلها الملائكية، قد تكون آخر قبلة يتركها الاب، فقد قرر أن يلتحق غدا بساحة القتال، تاركا خلفه زوجته وابنته، أخبر زوجته عن قراره، وطلب منها الصبر..
ذرفت دموعها، وأوجست في قلبها خيفة أن تبقى (حميدة) من دون أب، أطرق برأسه، إن افتقدتني قولي لها ان أبيك مسافر وسيعود يوما ما، ستتألم كثيرا، ستبكي على فراقي، ويملأ صراخها المكان، ستصبح يتيمة، أدرك ذلك يا عزيزتي، ولكن في سبيل الشهادة سيكون كل شيء جميل في عيني..
تنهدت الأم وكفكفت دموعها خوفا من أن تستيقظ (حميدة).
مع بزوغ الفجر ارتدى الأب ملابسه العسكرية، وحمل معه نسخة من القرآن الكريم وراية خضراء قد طاف فيها المراقد المقدسة، فلا شيء آخر يحمله معه، كان يتمنى لو يملك الطعام لحمله لرفاقه في المعسكر لكن ليس كل ما تتمناه تحصل عليه.
ودّع زوجته وأوصى بابنته، نظر إلى ابنته وهي تلاعب دميتها الخشبية، أمعن النظر إليها كثيرا، رفع يده وقرأ عليها آيات الوداع... خرج ومعه الكثير من الأمنيات والذكريات...
ترك المدينة جسدا وبقيت روحه حمامة ترفرف في داره، هذا اليوم الأول لم تر فيه حميدة أبيها، كيف سينقضي عليها!.
أفاقت من نومتها، كعادتها نظرت إلى عين امها، وجدت الكثير من الدمع، عرفت إن هناك امر ما، لم تصارح امها ولم تسألها عن أبيها حتى لاتحرج أمها بالسؤال، حملت الكيس على كتفها وخرجت وعلى غير عادتها لم تغازل الشمس وأخذت تلحن بصوت غريب لم يعتده منها كل من يعرفها، عرفت ان ابيها قد رحل الى مكان فيه تحلو الحياة وانه سيعود يوما وإن طال الفراق، وقفت تحت السماء تدعو ربها وكانت جملة واحدة تتردد على لسانها وهي: (يارب أنقذ ابي)، ظلت منهمكة في دعاء ربها حتى انتبهت ان السماء ستمطر.. وانها تأخرت كثيرا على امها، أسرعت نحو الدار وقطرات المطر توقفها لحظة وتكمل اخرى، ثيابها ندية وروحها صلبة، يقطر المطر من أسفل ثوبها.
وصلت الى دارها، صوت أنين امها يصل عند الباب، لم يرحم المطر فقرهم فقد كان ضيف ثقيل عليهم، حيث كان يتساقط من ثقب السطح بغزارة، وصل الماء الى أمها ولم تتمكن من دفعه أو منعه، فكانت دموعها تتساقط معه، تجرف الماء المتساقط من ثقب السطح، حميدة منهكة في العمل قضت ليلة حرجة جدا..
مرت الايام وهي على هذه الحالة..
في مساء كل يوم تقطف زهرة وتضعها في مكان أبيها، حتى جاء ذلك اليوم وطرق عليهم الباب مجموعة من الرجال، شعرت بالخوف من وقع الأقدام، تركت حذاء ابيها عند عتبة الدار من الداخل وعلقت ملابسه عند الباب، حتى يعرف القادم إن في البيت رجل...
تقف عند الباب خائفة تتمتم، من القادم؟ هل سيكون خيرا أم ماذا؟، فتحت تلك الباب التي كانت من القصب، ثمة رجال ومعهم رجل كبير يرتدي عصبة بيضاء، لأول مرة ترى رجل بهذه الهيئة.
قالت: نعم.. بصوت خائف يرتجف من أنتم؟
أنت حميدة ياابنتي..
نعم من أنتم.
نحن رفاق أبيك.
قالت: ابي هل عاد أبي..
نعم عاد يا صغيرتي..
اين.. أين أبي.. انتظر قليلا دعني ارتب جدائلي..
على جنبهم سرير مغطى بقطعة قماش لونه أزرق، كنت أسرق النظر إليه بينما كان يحدثني الرجل الكبير، نبضات قلبي تخبرني إن من في هذا السرير هو أبي..
وعقلي يرفض أن يصدق ما يقوله القلب، لعله كان مخطىء، قد يكون السرير هدية ﻷمي العاجزة، فقد طبعت ارض الدار على جلدها، بين ماكان يدور في داخلي وبين ما كنت أراه، صدرت كلمة واحدة وهي إن من في هذا السرير هو رجل مصاب في منطقة الحويجة فقد ذراعه وقدمه اليسرى، إثر سقوط قذيفة هاون من العدو في معسكرهم، مما أدى الى شهادة بعض رفاقه واصابة البعض، وكان أب حميدة من الذين كتب لهم العيش مرة اخرى، احتضنت السرير وصرخت بلهفة أبي يعود ومعه الهدايا وأنت عدت فاقد ذراعك وقدمك.
شعرت "حميدة" بالصدمة، أغلقت عيناها وأسندت ظهرها الى باب الدار وأخذت ترتجف، تفكر برهة من الوقت في حالهم ومن يتحمل مسوؤليتها الام أم الاب أم انها هي من تتحمل مسوؤليتهم، ثم فتحت عيناها، ابي هذه جديلتي لم تعد تنفعني سأقطعها كما قطعت يدك، أمسكت جدائلها وقصتها ونثرتها على عتبة الدار..
"حميدة" تائهة بدوامة الحياة تحاول أن تنقذ أمها وابيها من براثن الفقر ومن وجع الجوع، تصارع الوقت، تقف عند باب المدينة تعرض بضاعتها للبيع حبات الرز.. وباقة من النعناع، الانتظار يذيب زهور عمرها، فتراها في العشرين من عمرها بينما هي لم تكمل العقد الأول، قتل الحرب فيها طفولتها وأوقد فيها الف جمرة، في خلجات صدرها، لا يعلم بها احد، فبعد تضحيات أبيها لم يتفقده أحد، ولم يعوضه بلده عن تلك الاعضاء التي قطعت، ورغم انه كان مخيرا بين البقاء أو الرحيل.. لكنه اختار أن يكون مع رجال الفتوى الذين نالوا ما نالوا من وسام المعركة، وما يثلج الصدر انه كان سعيدا بهذه الحالة وكان يتوعد بأنه سيعود مرة اخرى لساحة المعركة ليقطع كل جسده فيكون مع الذين كتب الله لهم الشهادة والنصر، فـــاذا كنا أمة تقودها المرجعية برجاحة عقلها وعلمها سنكون أمة لا تهزم حتما..
اضافةتعليق
التعليقات