بين ظلام القبر، وهدوء المقبرة، و بين طيات التراب يرقد جسدي المقطع، حبات الرمل حاولت كثيرا أن تجمع جسدي، وأن تضمد تلك الجراح الخاثرة، فتلم بعضها وتفرش نفسها، عمق الجرح يجعل الحبات رطبة، أتلفت يميناً ويساراً وإلى كل جانب، لا احد يسمع صرختي، الكل نيام، أنا والصمت واحد، تستفزني ذاكرتي التي كنت ارغب كثيرا في تمزيقها حتى لا اشعر بألم الفراق، لكنها كانت الاقوى من الجسد، تقطع في قلبي كأنها تشاطر الشظايا في الوجع، تقطع أضلاع صدري عندما تذكر اسمائهم واحدا تلو الآخر.
ينتفض جسدي، أبحث عنهم في دهاليز ذاكرتي في الظلام وعيناي مغمضتان، ألتقط صورهم، وما بقي منها غير الأسود والابيض، امّد ذراعي لأحتضن صورة والدي، يسقط الذراع وتختفي، والدي الذي رأى ما رأى في غيابي أصبح الآن ناخر الجسد حاسر الرأس، تداهمه الهموم، ويلاعبه القدر كغصن ذابل..
أُمي لها ذاكرتي وفية مازالت تختزن بتفاصيلك الاليمة، وعرضت لي مشهد أنا لم اكن اتصور انك انت يا امي، هل تتعثرين عندما يذكرون اسمي، تشعرين بتلك الحرقة وتنكسرين عند الغروب كحمامة فقدت جناحها ولم تعد تقوى على العيش، تفتقدين صوتي في الدار، تهمسين لأبي انك مشتاقة لي، مازال نبضك يعرف ان كنت خائفا او آمنا..
أخي غيابي قصم ظهرك، كنت اشدد بك ازري، وأقوي فيك عظمي، الآن انا تحت الثرى، لا احد يناديني يا أخي، اشتقت لهذه الكلمة بحق الله قلها وانت على قبري..
اولادي قطرات الندى الليلي تناثرت على وجهكم وطبعت على قلوبكم، رغبت لو تدفنوني بين ذراعيكم، أو تحموني في مقلتيكم، ليرتاح جسدي عندكم، وارتوي من فيض دموعكم، اللّيلُ لا يُخفي حسراتكم، وعلى لحن الغياب عزفت آهاتكم، تصلني اوجاعكم وتزيدني وجعا على وجعي..
في ظلام دامس وطريق طويل وحشة القبر وصوت مناغاة امي لصورتي، وما إن تقول محمد حتى تئن المقبرة بسكانها، وتصدح الامهات هنا بصوت ابنائهم، لا احد يشتبه عليه صوت امه، رغم تلك الصرخات، نعرف من الانّة انها أُم شهيد او أُم قتيل، وما أنت يا امي معروفة بالعويل والألم و اكثر ما يؤلمني انني لا استطيع ان امد يدي لأساعدك واجفف دموعك، وعادت الدموع الى مجراها وكان وجهي ملتهباً بالنار التي اضرمت في المكان، ولا يزال آثار الدخان في صدري، احاول أن انهض، لم أستطع الإلتفات، كَفني مشدودٌ حولَ عنقي كالقيّد، وهناكَ حجارةٌ وضعها أحدُهُم في فمي، لربما حتى لا ابوح، ضامر كزهرة لم تسقَ الماء..
ما زالت تلك الحادثة معلقة في ذاكرته لا تغادره أبدا، وكتبتها عند اول يوم نزلت فيه هنا، عندما سألوني عن الدماء وعن اعضائي الممزقة عن ظمأي. اخبرتهم عن حالنا انا وعلي وليان، وغيرنا الذين مضينا نحو الشهادة متعطشين للقاء ربنا، في اول يوم من شهر الصيام، الساعة الواحدة والنصف ظهرا، في مدينة كربلاء المقدسة، ما أصعب النظر بعيون الماضي، عام مر لم أر فيه طيف صوركم، توقدون لي شمعة، وتقرأون الفاتحة، أصبحت في عداد الاموات، وتتبع اسمي عبارة الله يرحمه.
اضافةتعليق
التعليقات