لا زالت هناك بعض الاماكن باقية على حالها كأنها المتاحف، قد تُرك ما فيها من بعض الابنية القديمة والاشجار العالية كما هي وشُيدت بقربها بيوت اشبه بالقصور لان من يملكها قد اورثها لأبنائه والابناء كذلك وهكذا..
حدثتني قائلة: منذ طفولتي اعتدت الذهاب مع امي وابي لزيارة جدي رحمه الله ما ان تبدأ العطلة الصيفية من كل عام، كنت اعد الايام والشهور بشوق واجتهاد على ان انهي العام الدراسي بتفوق واسافر الى الريف البديع كالطائر المحلق في سماء الربيع حيث بيت جدي، تغمرني السعادة الوافرة وانا اتمتع بنشاط عظيم يقوده الفضول لاستكشاف تلك المساحات الشاسعة الخضراء المزينة بأنواع والوان متعددة من الزهور الصغيرة واشجار النخيل الشاهقة الجميلة وكل انواع الخضر والفواكه.. واجمل ما في الامر ذاك النهر الكبير الجاري في المنتصف بماء سلسال حيث تستمتع الاوزات البيضاء مع صغارها بالسباحة كل صباح ويعلو صياح الديكة، وصوت طائر الكناري الذي يشبه الموسيقى مع تغريد البلابل وزقزقة العصافير وأصوات كثيرة تُخبر النائمين بشروق الشمس وبداية يوم جديد حافل بشتى الاحداث والنشاطات المتجددة كل يوم..
أستيقضُ باكراً كي ألهو باللعب والركض خلف الفراشات انا ومن معي من ابناء اقاربنا تصدح حناجرنا بالاناشيد ونأكل ونمارس رياضة كرة القدم والكثير الكثير ولا نضيع ثانية واحدة منذ الصباح الباكر وحتى زوال الشمس..
وفي كل عام كنت اتفاجأ حين وصولي، أصدقائي واقاربي قد تغيروا كثيرا في الشكل وطول القامة وفي بعض الاحيان اتعرف على بعضهم بصعوبة بالغة متجنبة احراج نفسي فبالتالي كل من يراني يقول: لازلتِ كما انتِ الصغيرة المدللة ولم يتغير فيكِ شيء وفي الحقيقة كان هذا صحيحاً!.
وبمرور السنين اصبح جدي رجلا كهلا ومرض حتى وافاه الاجل، بقينا نزور جدتي ولكن ليس كل عام فهي اصبحت تأتي لزيارتنا ايضاً ..
مرت الايام والسنين وأصبحتُ زوجة لرجل نبيل وأم لأربعة أولاد ولم انقطع عن الذهاب لزيارة بيت جدي حتى بعد وفاة جدتي رحمها الله، وثاني يوم عيد الفطر المبارك من هذا العام ذهبنا مع امي لزيارتهم كالعادة ولا زلت ارى نفسي تلك الفتاة الصغيرة، والغريب في الامر اني أشعر بذلك فعلا!! ولم يتغير فيَّ شيء سوى ان رحيل ابي الذي احرق قلبي وسلبني صفة الصبر وكظم الغيظ طويلا، يوجه الي نفس هذا الكلام ويُعاد بكثرة ودائماً ما أُتهم بعدم استيعاب اني اصبحت كبيرة ولا زِلتُ كما انا واعترف بذلك!.
حتى ذهبت لاتجول بين زهور عباد الشمس الكبيرة واستمتع بالنظر الى الارض الخضراء الزاهية، انتبهت لأرى نفسي واقفة أمام شجرة السِدر تلك الشجرة التي لطالما أكلت من ثمرها الحلو المذاق وتأرجحت عليها وجلست تحت ظلها، كانت اقدم شجرة في البُستان، تمعنت النظر فيها لأجدها اصبحت اكبر من ما كانت عليه بكثير وقد تفرعت الى ثلاث لتصبح شجرة عملاقة غطت سطح ذاك الدار القديم..
التففت حولها لأصعق بوجود أثر ذلك الحريق مازال كما هو! ذاك الحريق الذي نشب ذات يوم قبل انتهاء زيارتنا والعودة الى المدينة، كالعادة اجتمعنا صبيان وفتيات لنلعب ونتسلى ثم اسرتنا رائحة الخبز وهي تنبعث من مكان قريب، ذهبنا خلفها نعدوا مسرعين حتى وصلنا لنجد خالتي تقوم باستخراج الخبز من التنور الذي صُنع من الطين، اعطت كل واحد منا رغيف كبير، لم نصبر على التهامه حتى يبرد اكلناه وهو حار مُقرمش، لذيذ جدا لا زِلتُ اتذكر طعمه، وبعدها اتفقنا على ان نلعب لعبة الاختباء وفعلا بدأنا باللعب وما مضت سوى دقائق قليلة حتى شممت رائحة حريق خنقتني وقد تصاعد دخان كثيف خلف الدار حيث شجرة السِدر العالية..
اسرعت لأرى ما الامر فوجدت النار قد اُضرمت بكمية من الحطب المكوم وأخذت السنتها تلتهم العشب والاشجار اليابسة شيئاً فشيء، صَرخت بأعلى صوتي ودلفت مسرعةً الى الدار كي اخبرهم بالحريق الذي نشب فجأة! هرع الجميع نحو الحريق وتداركوه بسرعة واخمدت النيران دون ان يتأذى احد سوى جذع شجرة السِدر فقد احترق جزء منه واصبح لونه اسودا، حمدنا الله كثيرا ذلك اليوم على سلامة الجميع وقد تبين ان سبب اندلاع الحريق كان مفتعلا حيث شُوهد احد الاولاد وهو يعبث بأعواد الثقاب ..
كان هذا الحدث المرعب هو الحدث الوحيد الذي رسخ في ذاكرتي، حاولت ان اتذكر شيء آخر فلم استطع!
ذاك الجزء الاسود من جذع الشجرة استوقفني طويلاً ليُخبرني كم كَبِرت!! أعادني بالذاكرة حيث كُنت فتاة صغيرة ابلغ التاسعة من عمري وها قد بلغت الثمانية والعشرون وانا لازلت بطباع تلك الفتاة! رِحت اقص تفاصيل الحادثة على مسامع خالتي العزيزة واتأكد، فنظرت الي متفاجئة وابتسمت وقالت: ألا زلتِ تَتذكُرين ذلك اليوم؟ بالفعل هذا ما حدث و قد مرَّ عليه ما يُقارب التسعة عشر عاماً! كُنتِ صغيرة انذاك ولا زِلتِ كذلك ثم ضَحِكَت بصوت عالٍ ساخرةً مني وقَبلَتني بعطف وحُب، جَعلت مشاعري تختلط ببعضها، اغتَظتُ من كلامها في بادئ الامر فلطالما كنت اصدق هذا الكلام واسعد به، فأنا اعترف بأني اخاف فكرة ان اكبر الى ان اُصبح عجوزٌ هرمة! ولكن كأن تلك الشجرة انتظرت هذا اليوم لتُخبرني كم كَبرت فصدقتها!.
وعُدت انظر اليها واتكلم معها فقالت لي: سأخبرك سراً؛ انتِ تُشبيهنني كثيرا الآن، فقد كبرتِ ونَجحتِ في ذلك رغم الحريق الذي نشب في قلبُكِ، ليبقى ذكرى تنتفضين وتقاومين لأجل صاحبه كما الذكرى التي بقيَّت على جذعي من عملكم انتم الصغار فلا زلت قوية واعطيكم احلى الثمار!.
اضافةتعليق
التعليقات
2017-07-19