كان يسترق النظر من تلك الفتحة التي شقت جوف الرغيف، اراد ان يقبّلها بشغف ويقاسمها السعادة، تبادر الى ذهنه صورة أخيه الذي ينتظره بأمل، فأرسلت المحجرين حبلا من الدمع ليقبّل الوتين، كان عليه ان يُطعم القلب بالصبر ويُطعم اخيه الصغير الرغيف، اسرع بخطوات تشق قلب القدر وهو يحتضن الرغيف كطفل يخشى سقوطه، وكأنه طير يطير بين الازقة، وصل الى ذاك الباب المهترئ..
فتحه، فصرخ الباب وهو يخطو على الارض وكأنه قارب على السقوط، دخل الصغير فرحا ونادى: احضرت الطعام يا اخي، اقترب نحو الطفل، مسح على جبينه الذي اصبح ثلجا بعد ما كان يلهب براكينا في الامس، قبّله وايقظه دون جدوى، ترك الرغيف جانبا، وضع رأسه على صدر اخيه، توسّد الألم وشهق الوحدة مجددا ورتلت الحنجرة: انا اعتذر، تأخرت بإحضار الطعام لكن اعدك لن اتأخر باللحاق بك، فأنت الامل الذي كان يجعلني اشحذ ودا باردا من قساة القلوب، واغمض عينيه فالآن حتى الرغيف لن يشبع ذاته ونطق الوداع فالفقر بعد علي لايطاق..
كما قال الدكتور الشاعر مصطفى جمال الدين:
ظمئ الشعر أم جفاك الشعور.. كيف يظمأ من فيه يجري الغدير..
ان الفقر بصمة تقطع وتين الحياة امام مجتمع اضحى لايرى سوى نفسه، اما الفقير يتوسّد الجوع ليلا وربما لعدة ايام لايرى الطعام، اليوم السؤال الوحيد الذي يشفي غليل الفقير هو ان تقول له: كم مضى على وفاتك؟، فحتى كيف حالك لن تأخذ اجابة صادقة منه، فيخشى ان يقول لك انا بخير فتتمنى دوامه ويتخلد بؤسه اليوم.
لن يشعر احد بفقير يتأرجح على حبال الالم كل مايبادر اذهانهم ان قدموا صدقة هو ان تصاحبها كاميرة لتخلد صورة انه معطاء، فأين ذاك الذي كان يترك الخير عند الباب ويطرقه ثم يغادر حتى لايعلم صاحب الدار من كان، فقط الامام علي (ع) يستحق ان يكون اب الفقراء، فتباً للمرائين الذين ملؤوا الكون بحجج تحقيق السعادة والصعود على اكتاف احباب الله.
واليوم نجد ائمة التاريخ يتهالكون في ضبط مبادئ الاديان وتعاليمها وتقييد مايتبعها من دعايات وحروب وسماسرة وحكومات التي عليها نسلت الحقب والاعوام ومضت القرون الخالية (سنة الله في الذين خلوا ولن تجد لسنة الله تبديلا)..
واليوم نجد ان واقعة (غدير خم) هي من اهم تلك القضايا، لما ابتنى عليها وعلى كثير من الحجج الدامغة، مذهب المقتصين أثر آل الرسول (صلى الله عليه واله)، وهم معدودون بالملايين، ففيهم العلم والسؤدد، والحكماء، والعلماء، والامثال، ونوابغ في علوم الأوائل والأواخر.
إن النبي (صلى اللّٰه عليه وآله) قد جمع الناس يوم ١٨ من ذي الحجة في غدير خم وهو موضع بين مكة والمدينة بالجحفة وذلك بعد رجوعه من حجة الوداع، وكان يوما صائفا حتى أن الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدة الحر، وجمع الرجال، وصعد عليها، وقال مخاطبا: معاشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: اللهم بلى، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.
فيتمحور البعد الأول، في اعتبار الغرض الاساس من واقعة الغدير هو اخذ معالم الدين، فكان السؤال؛ من هي الجهة التي تقوم مقام النبي بعد ان كانت الامة ترجع اليه إبان حياته، لفهم معالم دينها؟، من هنا نجد ان العديد من الاحاديث تتناول حديثه بشأن المرحلة التي تعقب استشهاده ومن ذلك قوله في عيد الغدير (كأني دعيت فأجبت) وتلك اشارة صريحة منه الى مرحلة الفراغ الذي يلي استشهاده، والى من يملأ الفراغ، ويحدد ذلك بأمرين، الكتاب والعترة العلوية، في قوله (واني تارك فيكم الثقلين احدهما اكبر من الاخر كتاب الله وعترتي اهل بيتي).
حيث يمثل القران الكريم الخريطة والمنهج النظري للشريعة والدين، فيما يمثل اهل البيت الجهة المعنية بتنزيل هذا المنهج وتطبيقة على الواقع وهم خير من حمل الرسالة، من ثم انه يتناول المسألة العلمية والسلوكية لدى آل بيت النبي، اذ ان اهل البيت يمثلون المرجعية للأمة في فهم الشريعة، بما يتجاوز جميع اهل زمانهم، فهم الاعمق معرفة بمعالم الشريعة بمختلف جوانبها وابعادها ..
ومن هنا نحن بإزاء شخصية عظيمة تمتلك المعرفة الشاملة والعمق الكبير في فهم الدين، فكل مانجده اليوم من فساد وتزعزع بالقيم واستهانة بالانسانية هو نتيجة الابتعاد عن الدين.
وعيد الغدير محطة نمر بها كل عام وهي من المناسبات التي نجد فيها فرص لتغيير الذات، فلنضع بعض العادات التي ترسم وجها للعيد اسوة ببقية الاعياد، فعيد الغدير هو اهم الاعياد ففيه نصب علي (عليه السلام) اميرا للمؤمنين فهو يوم تجديد الولاية والعهد فلتكون هناك مراسيم بسيطة وخاصة تجعلنا نقيم عيد الغدير وتجديد العهد بطرق ترضي الله وتجعلنا نسير على وتيرة علي (ع).. كأن نجعله يوما للصدقة واعانة المحتاج دون علمه كي لانجعله في وضع احراج قال الله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (البقرة: 271).
كذلك يمكننا ان نقدم فيه بطاقات تهنئة بيوم الامام علي (ع) تنص على تجديد العهد ونضع فيها بعض احاديث الامام علي فتكون تهنئة تصاحبها نصيحة مفيدة وحكمة وقول عن امير المؤمنين وسيد الوصيين، كذلك يمكننا ان نجعله يوما مميزا تجتمع فيه العائلة لترسيخ مبادئ الدين من الرحمة والتسامح والمحبة.
اضافةتعليق
التعليقات