يعدّ العقل البشري ساحة تتدفق إليها التصورات الذهنية من كل حدب وصوب، بعضها يأتي بفعل الظروف والمحيط، وبعضها الآخر ينبثق من اختياراتنا وسلوكياتنا اليومية. هذه التصورات، وإن لم تكن اختيارية بشكل مباشر، إلا أن مقدماتها غالبًا ما تكون وليدة أفعالنا واختياراتنا. وهنا تكمن خطورة الأمر؛ إذ أن ما يسمح له الإنسان بدخول ذهنه يؤثر بشكل مباشر على نقاء قلبه ووضوح بصيرته.
التصورات وأثرها على الروح
إنّ التصورات ليست مجرد صور عابرة تقتحم الذهن دون تأثير، بل هي بذور تُزرع في النفس لتنبت أفكارًا وسلوكيات تحدد طبيعة الإنسان ومساره في الحياة. فمن يعيش في بيئة نقية مفعمة بالإيمان والصلاح، يجد أن مخيلته لا تزورها إلا صور نقية طاهرة، تعكس عمق روحه وتوجيهات قلبه. وعلى العكس، من ينغمس في أجواء ملوثة فكريًا وأخلاقيًا، كالإعلام الهابط والمحتوى الفاسد، يجد أن تصوراته تميل نحو الظلامية والانحطاط، مما يؤدي إلى انحراف أفكاره وأفعاله دون أن يدرك خطورة هذا الانحدار.
الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار
يقول العلماء: "الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار." وهذا يعني أن الإنسان، رغم أنه قد لا يختار التصورات التي تقتحم ذهنه، إلا أنه مسؤول عن الأجواء التي يخلقها لنفسه، والتي تؤدي إلى هذه التصورات. فالذي يملأ حياته بالخير والطاعة والتأمل في آيات الله، يجد أن تصوره للعالم ينبض بالنقاء والنور. أما من يسمح لنفسه بالانجرار وراء المحتويات الهابطة، فإنه يهيئ أرضًا خصبة للأفكار المنحطة والتصورات المظلمة، والتي تقوده حتمًا إلى أفعال تتماهى معها.
التقوى: حارس الفكر والقلب
التقوى ليست مجرد اجتناب المحرمات الظاهرة، بل هي حارس داخلي يحمي القلب من الظلام، ويمنع الفكر من الانحراف. ولذلك، فإن تقوى الله تبدأ من الداخل، من حرص الإنسان على نقاء تصوره ونظافة مخيلته، لأن الأفكار التي نسمح لها بالتغلغل في أذهاننا هي التي تشكل وعينا وتحدد مسار حياتنا.
ظُلمة الباطن ونور القلب
كم من شخص يشعر أن داخله منير، وأن قلبه ينبض بحب العبادة والطاعة، وآخر يشعر بالثقل والظلمة والانحراف؟ إن الفرق بينهما ليس مجرد أفعال ظاهرية، بل هو تراكم تصورات وأفكار شكلت شخصيتهما من الداخل. التصورات الهابطة تجرّ صاحبها إلى أفكار منحطة، وهذه الأفكار تؤدي إلى أفعال هدامة تترك أثرها في الروح والعقل.
كيف نحمي تصوراتنا؟
البيئة الصالحة: اختيار الصحبة الطيبة والمحيط النظيف الذي ينعكس على تصوراتنا.
التحكم في المدخلات الفكرية: عدم التعرض للمحتويات السلبية التي تزرع بذور الانحراف في أذهاننا.
التأمل في آيات الله والتفكر في خلقه: استبدال الصور الذهنية الفاسدة بصور نورانية تغذي الروح وتفتح البصيرة.
الاستغفار والذكر: وسيلتان لتنقية القلب من شوائب التصورات السلبية، وتجديد النقاء الداخلي.
إن العقل البشري لا يمكنه أن يكون فراغًا، فهو إما أن يُملأ بالنور أو بالظلام. وما نسمح له بالدخول إلى أذهاننا سيحدد شكل أرواحنا ويخط مسار حياتنا. فكما نحمي أجسادنا من السموم، علينا أن نحمي عقولنا من التصورات الهابطة، لأنها أساس الفكر، والفكر هو أساس العمل، والعمل هو الذي يحدد مصيرنا في الدنيا والآخرة.
اضافةتعليق
التعليقات