فضت الحداثة، من بين ما أفضت إليه ثقافياً، إلى دعوات للتحرر الجنسي، باعتبار أن المرأة تتعرض لاضطهاد الجنس الآخر (الجنسانية) في كل مجالات الحياة. فأصبحت المرأة الجديدة تشعر بأنها مكبلة في الزواج، حتى عندما لا يكون هذا الزواج شرعيا فعقلية الرجل القديم التي لا تزال حيَّة تخلق قيودًا نفسية لا تقل متانة أو صلابة (قسوة) عن الأغلال الخارجية؟
بهذه العبارة لخصت الإصلاحية الكسندرا كولنتاي هموم المرأة الجديدة على الصعيد الجنسي. ولكن عبرت عن النسخة الغربية الرأسمالية لرفض الاضطهاد للنساء بالثورة الجنسية، حرية العلاقات والممارسات الجنسية. ومعها ثورة الحرية الجنسية.
وبقيت المرأة الهوى عدا ونقدا، فتحولت إلى سلعة، إلى شيء يُستخدم لمن يدفع، أو لمن يخدع، فالأمر سيان يبقى فيهما الرجل صاحب المتعة والامتياز والسيطرة ماديا وجسديا؛ ذلك كلّه في إطار عالم لمجتمع تطورت فيه التكنولوجيا والصناعة لتجعل الإنسان عموما، والمرأة على وجه الخصوص، في معاناة واضطهاد أعلى وأكثر تعقيدًا مما عاشته النساء العهود السابقة، إذا ما قورن العصر بخطاباته وادعاءاته عن مفاهيم التحرر، والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتحرر المرأة الاجتماعي في والجنسي مع بساطة خطابات العصور القديمة وسذاجتها.
ويمكن تلخيص الواقع النسائي بالقول: إنه لم يسبق للمرأة أن كانت مسحوقة ومنهارة ومستعمرة وخامدة مثلما هي عليه الآن، ويمثل عصرنا أكثر العمليات دناءة في تاريخ المرأة.
بما تقدمه لها مجتمعات التكنولوجيا الحديثة والتطور الاقتصادي، والحقوقي، انخرطت في لعبة مضطهديها، فولجت إلى التمتع بمهارتها في استعراض رأسمالها الجسدي، وفي ردها على ما يُوصف باضطهاد الذكورة، وبعد إشباع جنسي ميكانيكي لجسدها، وشرعت تبحث عن الجنسية المثلية نكاية بالرجل، بينما هي في الواقع تحط من قدر نفسها. لقد اندفعت النساء إلى الاسترجال، وكلما أردن أن يكن كالرجال ابتعدن عن أنوثتهن، فإنهن عاجزات عن تصور أن الأنوثة - والمرأة ـ يمكن أن تكونا ميزتين.
إنهن رجال خائبون ونساء فاشلات، ويتعرضن إلى خطر أن يصرن يائسات ومن دون هدف في متاهات الشعور بالدونية.
وفي الغرب الذي هو أبو «الحداثة» يتعادل إتقان الصناعة وتطوير التكنولوجيا مع إدخال كل التحسينات الضرورية لتسليع المرأة، فعلى هذا النحو تجري الأمور على طريقتين: الأولى عبر دفعها إلى العمل وفق شروط لم تحددها هي برغبتها واختيارها، والثانية من خلال توظيف منتجات التجميل والألبسة والإعلام، وحتى الطب، وطب التجميل، لجعل الجسد الأنثوي قادرًا على دخول سوق المزاحمة في البيع والشراء للجنس المبتذل، وتصبح النساء الغربيات، نماذج هذه الحداثة، المعتبرات حرَّات، ومستقلات، قلما يتمتعن بسمعة حسنة.
وإن الأزمة الأخلاقية والمعنوية التي يعرفها المجتمع الغربي في الساعة الراهنة، لم تستطع أية أيديولوجية أخرى إنضاج معايير أخرى للحداثة. لتخرجه منها نحو إنسانية أفضل ومكانة للمرأة بعيدة عن الابتذال. حقيقة إن المرأة باتت ضحية للعالم التكنولوجي الجديد من الإنسانية. وهن يبحثن اليوم عن الطمانينة، عن جواب أنهن كن مخدوعات في جميع العصور، وما زلن في أيامنا هذه مسحوقات أكثر من أي وقت مضى، وهن يحسسن بذلك على الرغم من الهدايا المذهبة التي تُقدَّم إليهن.
وعلى الرغم من تطور الاقتصاد العالمي، وفي البلدان الصناعية الكبرى تحديداً، ومع أن المرأة منخرطة في عملية الإنتاج بشكل كبير، فإن مردود عملها يبقى هزيلا قياسًا بجهدها. وفي إحصائية أجريت عام 1980 أشارت إلى أن %70 من ساعات العمل في العالم تتعلق بالمرأة، إلا أن %10% فقط من الواردات تعود إليها. ولا تزال نسبة الأميات في النساء تشكل ضعفي عدد الرجال، وبالتالي فإن 1% فقط من ممتلكات العالم هي بيد النساء.
والبارز من النسب والأرقام التي وردت في تقرير هيئة الأمم المتحدة (أعلاه) أنه على الرغم من كل الدعوات العالمية لوقف التمييز ضد المرأة والمساواة مع الرجل، والدفاع عن حقوقها إلَّا أنَّ المرأة لا زالت تتعرض للظلم والاضطهاد في مناطق عدة من العالم.
وما زالت تعاني من الأفكار الدونية والنفعية التي ينظر من خلالها إليها والتي تستتبع سوء طريقة المعاملة وبؤس الحياة التي تعيشها.
التحولات التي يشهدها عالم ما بعد الحداثة، لا يبدو أن تطورًا ثوريا سيحصل في المدى المنظور في مجال حقوق المرأة السياسية والاجتماعية. الأمر الذي يعيد الاعتبار لمراجعة كل الأطروحات الحداثوية التي ظهرت منذ التنوير وإلى اليوم.
في أي حال، لا ينبغي أن يُنظر إلى الملاحظات التي أوردناها عن وضع المرأة العالمية في أزمة الحداثة، بوصفها دعوة إلى العودة إلى الوراء عن نحو ثقافات أبعد غورًا في تاريخ الحضارات العالمية. إن ما أردناه من إبدائها هو التأكيد على مادية المجتمع العالمي، الذي تتمركز فيه السلطة بيد الدول الطامعة، أبدا بالثروات واستلابه، من دون اعتبار لمصائر البشر، ليس في أنحاء العالم المسمّى ثالثاً، فحسب، بل حتى مصائر الإنسان في مجتمعاتها.
وتؤكد البحوث والدراسات الدولية وجود نشاطات فعالة وواعية لنساء عالميات من أجل تغيير وضعيتهن حسب رؤيتهن الخاصة، إذ، إنَّهن يفضلن العمل بأنفسهن عوضا عن دعم الرجال أو الإسهام في عملهم.
فهل يعني ذلك أن النساء يرغبن في الحلول محل الرجال وتحمل مسؤوليات إضافية؟ إن عدم تقدم الرجال بنسق مماثل لتقدم النساء ينطوي على مخاطر وسيكون من دون شك، القول الفصل في هذا الصدد للشراكة في القرن القادم.
المصدر:
مقتبس بتصرف من كتاب "المرأة وقضاياها/ دراسات مقارنة بين النزعة النسوية والرؤية الإسلامية" " لمجموعة من المؤلفين.
اضافةتعليق
التعليقات