يقصد نظام التفاهة إلى إسباغ التفاهة على كل شيء. وتكمن الخطورة الحقيقية للأمر في كون هذه المهمة سهلة وممكنة التحقق بسلاسة.
وفي ظل ما يحاصرنا من دعاوى التسليم والانقياد الفكري الأعمى تحت مسميات إطلاقية كالحرام والحلال والعيب والتقاليد وتقديس الأشخاص والرأي العام والشعبوية، علينا أن ندرس التفكير الانتقادي critical thinking القادر على التعرف على كل دعوى تافهة مثل هذه، بل وأن نستحضر جميع نماذج التفكير الانتقادي الصرف (الذي يراد إفهامنا أن حضارتنا لا تعرفه)، فنبث الحياة فيها.
من ذلك:
"لم أكتب هذا لتقرّ به ولكنه رواية أحببت أن تسمعها، ولا يعجبني الإقرار بهذا الخبر، وكذلك لا يعجبني الإنكار له، ولكن ليكن قلبك إلى إنكاره أميل، وبعد هذا فاعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له، وتعلم الشك في المشكوك فيه تعلماً، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرف التوقف ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه، ثم اعلم أن الشك في طبقات عند جميعهم، ولم يجمعوا على أن اليقين طبقات في القوة والضعف ولما قال أبو الجهم للمكي: أنا لا أكاد أشك، قال المكي: وأنا لا أكاد أوقن، ففخر عليه المكي بالشك في مواضع الشك، كما فخر عليه ابن الجهم باليقين في مواضع اليقين".
لنا أن نتخيل أن كاتب هذا الكلام ليس الفيلسوف رينيه ديكارت صاحب نظرية الشك المنهجي الذي عاش في فرنسا القرن السابع عشر الميلادي، بل هو الأديب العربي الجاحظ الذي عاش في بغداد القرن التاسع الميلادي، أي قبل ديكارت بثمانية قرون. كتب الجاحظ هذه الفقرة بعد أن روى في فقرة سابقة ما كان سمعه. عن نوع من الثعابين قيل إنه يلد، وعن نوع من الوعول قيل إن أنثاه تلد مع كل ولد تضعه أفعى، وهو ما كان يصدقه عموم الناس في ذلك الزمن، ولم يصدقه هو بسبب تفكيره الانتقادي الذي يعرض المعارف على مسطرة العقل أولاً.
وبذلك فإن الدرس هنا هو أن عقلك هو قدس الأقداس، فلا تسمح لأي فكر أن يدخله ما لم تطهره بنار الشك وتجدر هنا الإشارة إلى وسيلتين يبدو لي أنهما تمكنان نظام التفاهة من ترسیخ نفسه في واقعنا، والتنبيه إلى خطورتهما كأداتين تخدمان هذا النظام:
- البهرجة والابتذال
يسعى البعض لتخليد اسمه بأي شكل من الأشكال، أياً ما بلغ من فجاجة هذا الشكل أو سطحيته بل وقبحه أحياناً، والأمثلة كثيرة:
ففي سبيل الشهرة الأنانية، يصبح هؤلاء مثل هيروستراتوس Herostratus، فيحرق كل معبد، كما يقال والإشارة هنا هي إلى الشخص الذي قام بحرق معبد أرتيمس Artemis في آسيا الصغرى (تركيا اليوم)، وهو عجيبة من عجائب الدنيا السبع، فقط رغبة منه لتخليد اسمه في التاريخ، وإن كان ذلك من خلال عمل سلبي.
- المبالغة في التفاصيل
إن كل ما تقدم لا يعني أن التافهين لا يعملون في الحقيقة، هم يعملون بجد، وبمبالغات بروزوبوغرافية أحياناً، فالأمر يتطلب مجهوداً للخروج ببرنامج تلفزيوني ضخم، أو لتعبئة طلب منحة بحثية ممولة من وكالة حكومية، أو لتصميم أكواب صغيرة وجذابة وذات مظهر إيروديناميكي للبن الرائب...
اضافةتعليق
التعليقات