في السنةِ الرابعةَ عشرَ من بدايةِ الألفية الثانية، في تكريت بالتحديد على جرفٍ لدجلةَ العظيمة، لطالما تخيلتُ دجلةَ الفتاة الخجولةَ التي تحتمي بين أذرعِ الفرات القوي، تمنيتُ أن تحتضنني دجلةَ فلها حضنٌ يشبه حضن أمي وقد احتضنت أخي من سنين مضت، ها هي الشمس تصغرُ تدريجيًّا معلنةً قربَ مغادرتها للسماء، خائفةٌ ولا تملك الجرأة الكافية لمشاهدةِ المشهدِ القادم.
وها أنا ذا متكئٌ على قدميّ الاثنتين، محاطًا بالمئاتِ مثلي منتظرًا لحظةَ نهايةِ قصتي من بين اللحظاتِ الأخرى التي مرت وأعلنت النهاياتِ الأخرى.
استرقتُ النظر وإذا به ذا لحيةٍ طويلةٍ شعثاء مغبرة، لهُ عينانِ مليئتان بالغضب الممزوجِ بالُجبن، للعيونِ لغةٌ فاضحة، تفضحُ ما نحاول ألا نفصح عنه، تُظهرُ حقيقتنا لمن نريد ومن لا نريد من دونِ أدنى رغبةٍ منا.
تقدم نحوي كأني أحد واجباته المُلزم بالانتهاء منها، يجرُ سلاحهُ متثاقلًا كأنه يطلبُ من أرضنا الرحوم مساعدتهُ في التخلصِ منا، في أثناء هذا كله لمحتْ عينايّ ساعة يدٍ لأحد الذين قتلوا قبلي، كانت تُشيرُ إلى السادسة، لطالما أحببتُ الرقمَ ستّة فأنا من عائلة ذاتِ ستةِ أشخاص وولدتُ في السادس عشر من حزيران لسنةِ ستٍ وتسعين، اليوم هو الثاني عشر من هذا الشهر الجميل لكنها السادسة وللسادسةِ تأثيرها المميز، أشعرُ بحرارةٍ تخترقُ جسدي الهزيل، لطالما حدثني والدي عن احساس اصابتهِ برصاصةٍ في يده إلا أن الاستماع إلى وصفه لم يكن كاختبارِ الشعور بحدِ ذاته، وها هيّ دجلةُ الجميلة تحتضن دمائي وتتزينُ بها.
أشعرُ بخفة لم أختبرها من قبل، كأني ريشة أفلتت من جناحِ طائرٍ ما، أشعرُ بسلامٍ ربما لأني في طريقي نحو السلام.
مرتْ تسعُ سنين، ما زلتُ آتي كل عامٍ في هذا اليوم أقفُ على نفسِ الجرف الذي تم انهائي فيه، لم تمنحني الحياةُ فرصة أن اختبرها وأن أعيشها، في العالم الأرضي سأبلغُ السابعةَ والعشرين بعدَ أربعةِ أيامٍ من اليوم، لم يؤخذ القصاصُ لنا بعد بل تم أخذ المزيد منا مع مرورِ الأعوام.
أنظر إلى أمي التي مازالت تأتي كل عامٍ كأن لها موعدًا معي، ينتابني احساسُ أحيانًا أنها قادرةٌ على رؤيتي، قادرةٌ على احتضان روحي… وهل تعجزُ الأمهات عن شيء؟!.
اضافةتعليق
التعليقات