منذ فترة ليست بقصيرة لاحظنا توجه العالم والمجتمع إلى نظرية التشيؤ أو التجسيم، والذي يتمحور في طريقة التعامل مع الجانب المادي للإنسان بعض النظر عن الجانب الروحي والمعنوي.
وبصورة أدق يعبر عن التَشيُّؤ (reification) بتَحوُّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء (علاقات آلية غير شخصية) ومعاملة الناس باعتبارها موضعاً للتبادل.
وحـينما يتشيأ الإنسـان، فإنه سـينظر إلى مجتـمعه وتاريـخه (نتاج جهده وعمله وإبداعه) باعتبارهما قوى غريبة عنه، تشبه قوى الطبيعة (المادية) تُفرَض على الإنسان فرضاً من الخارج، وتصبح العلاقات الإنسانية أشياء تتجاوز التحكم الإنساني فيصبح الإنسان مفعولاً به لا فاعلاً، يحدث ما يحدث له دون أية فاعلية من جانبه، فهو لا يملك من أمره شيئاً.
ويمكن القول ببساطة شديدة بأن التَشيُّؤ هو أن يَتحوَّل الإنسان إلى شيء تتمركز أحلامه حول الأشياء فلا يتجاوز السطح المادي وعالم الأشياء.
ولعل من أبرز أنواع التشيء هو تسليع المرأة أو تشييء المرأة ويعرف أحيانا بالتشييء الجنسي للمرأة (The objectification of women) وهو رؤية ومعاملة النساء كشيء عبر استخدام جسد المرأة في الترويج والتسويق للمنتجات وزيادة الأرباح، واستخدام المرأة كأداة عرض جنسية في الإعلانات التي تسعى إلى تكوينِ صورةٍ ذهنيةٍ للمنتجِ ملتصقةً بصورِ الإغراء، ووسائل الإعلام والأفلام الإباحية ومهن مثل رقص التعري والدعارة، وتقييم المرأة في الأحداث العامة بناء على المظهر الجسدي والجاذبية الجنسية كما يحدث في مسابقات ملكة الجمال، يعد تشييئًا جنسيًا[1]، ويشمل التشيؤ أو تجسيم المرأة جوانب متعددة في الحياة منها:
الجانب الاقتصادي:
بلا شك يلعب الاقتصاد دورا كبيرا في نمو المجتمع وازدهاره، ولأن اقتصاد كل دولة دليل على تطوره وقوته في العالم لهذا تسعى الدول جاهدة لرفع نسبة الإنتاج وزيادة الدخل الاقتصادي بكل الطرق الممكنة، ومع بالغ الأسف هنالك الكثير من الدول تتجه إلى حيل غير شرعية من أجل زيادة الإنتاج الاقتصادي سواء بمعاملات غير قانونية أو من خلال ممارسات غير شرعية.
وهنالك من وجد طريقة أخرى يرفع من خلاله نسبة الإنتاج والمبيعات ألا وهي تسليع المرأة وعرضها جسديا لزيادة نسبة الشراء من خلال تجسيمها واستخدامها كوجه اعلامي لرفع نسبة المبيعات، ففي إعلان تلفزيوني لمنتج (فيرجينيا سليمس) للسجائر تظهر امرأة نحيلة بملابس السباحة تُدخن السيجارة؛ فإن استخدام جسد امرأة في مشهد مثير للترويج للسجائر يندرج في خانة تسليع جسد المرأة.
في هذه الحالة تتعامل الشركة مع المرأة كجسد تسويقي يروج لبضاعته من خلاله ليزداد الاقبال في عملية شراء المنتج.
فالاقتصاد بات ينظر إلى المرأة كحالة مادية يستفاد منها في عملية التسويق ورفع المبيعات، وما يحزن بأن المرأة هي التي سمحت لنفسها أن تعرض نفسها وجسدها بهذه الطريقة وغضت البصر عن شخصيتها وعقلها والمميزات التي وهبها الله تعالى للمرأة دون غيرها من المخلوقات، ورضيت أن يظهر وجهها على علب السجائر وأكياس الشيبس!.
الجانب الإعلامي والفني:
من أحد الجوانب المهمة في عملية التسليع هو الجانب الإعلامي وقد يلاحظ بأن الكثير من منظمي الحفلات والمهرجانات يتوجهون في اختياراتهم إلى العنصر النسائي المتميز بالجسد المثير والوجه الجميل مستبعدين كل المواصفات التي يجب أن تتوفر بالعريف كالأسلوب واللغة وطريقة الخطابة والاتزان... الخ.
وهذا الأمر غالبا يستخدم لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الجمهور ولفت الانتباه إلى الجسد الواقف على المنصة دون الاهتمام لأهمية الفكرة المطروحة.
وكذلك الأمر يتكرر مع توظيف مقدمات البرامج ذات المستوى الإعلامي السيء فقط من أجل جمالهن وهندامهم، فلا طريقة الملابس ولا طريقة المكياج ولا طريقة الكلام لائقة للظهور إلى المشاهد من خلال نشرة إخبارية أو عرض فقرة الأنواء الجوية!
مع بالغ الأسف فقد الاعلام الكثير من المهنية التي كان يمتاز بها في السابق، فبعد التأكد من خبرة وكفاءة الاعلامي والاختبارات الكثيرة التي كان يخضع لها في السابق سواء في طريقة اللفظ والنطق والصوت... الخ بات العامل الأساسي اليوم لقبول العمل في القنوات التلفزيونية هو الشكل والمظهر!، وهذا إذا دل على شيء فهو يدل على فشل المنظومة الإعلامية وانقيادها إلى الهاوية.
جانب السوشيال ميديا:
اثبتت الدراسات مؤخرا بأن المرأة تجسم نفسها أكثر من تجسيم المجتمع لها، فقد باتت المرأة تنظر إلى نفسها كمكون مادي فقط، وهذا ما يحصل اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي، فغالبية الفتيات اللاتي يظهرن على السوشيال ميديا غالبا ما يكون لأجل الرقص والاستعراض الجسدي.
فقد أصبحت المرأة اليوم لا تشعر بالرضا عن شكلها ومظهرها إلا بعد أن تجد العدد الفلاني من اللايكات والتعليقات على الفيديو أو الصورة التي تقوم بنشرها في صفحتها الشخصية.
ومن لا تحصل على اللايكات أو تتعرض إلى تعليقات مسيئة تتعرض إلى احباط شديد وتدخل في نوبات كآبة، فقد صرح العديد من أطباء النفس بأن أغلب المراجعات إلى العيادة هم من فئة الفتيات اللاتي تعرضن إلى تعليقات مسيئة من المتابعين.
وبصورة عامة المرأة التي لا ترى في نفسها إلا جسدا تعاني من عقدة النقص في المظهر، لأنها تغض البصر عن كل المميزات التي لديها من الشهادة والأخلاق والصحة والعقل والعائلة... الخ وتركز على جسدها فقط، وتشعر بأن المجتمع يراها من خلال جسدها.
"وإن عقدة الشكل ليست سوى أحد أشكال عقد النقص التي يدخل الشخص فيها بمقارنة تلقائية مع الآخر مع شعوره بالدونية، ودائما يشعر أن شكله غير كاف لإرضائه أو إرضاء المجتمع".
وعلى أثره يصبح الجسد هو معيار وجود المرأة في هذه الحياة والتي على أساسه تشعر بالرضا وقبول المجتمع لها.
وتلعب عقدة الشكل دورا سلبيا في حياة المرأة وانقيادها إلى التجسيم والتشيؤ إضافة إلى التأثيرات الكبيرة التي تترك على حياتها الاجتماعية والشخصية ومن أبرزها:
١- تأُثير الشكل على ثقة المرأة بنفسها: والتي يؤدي بها الخروج إلى المجتمع بثقة مهزوزة لأنها لا ترى من نفسها إلا جسدا، وإذا ظهرت بمظهر غير مرتب أو لا يتناسب مع معيارها الخاص فإنها ستشعر بالدونية وترى نفسها أقل من غيرها.
٢- تأثير الشكل على اختيار شريك الحياة: غالبا ما تكون المرأة مهووسة بأفضل المعايير الاجتماعية للجمال، وهذا سيصعب عليها الخيار وربما يكون الخيار وفقا للشكل، أكثر من أن يكون وفقا للتوافق الفكري والروحي والعاطفي، وسرعان ما يسقط تأثير الشكل في العلاقة خلال الستة أشهر الأولى غالبًا، وتفقد اكتراثها بهذا الشكل ويبدأ الاضطراب في العلاقة..
٣-اللجوء إلى عمليات التجميل بصورة مبالغة: لا شك أن عمليات التجميل تحدث فرقا حقيقيا لا يمكن إنكاره بمستوى التقبل، وتمد الانسان بشعور أفضل عن نفسه، لكن المشكلة الحقيقية تكمن عندما تصبح المرأة مهووسة بالتجميل وتحاول أن توافق شكلها الخارجي مع معيار المجتمع، لتحصل على الأنظار من العابرين ليمدها بنشوة الاستحقاق التي كانت تبحث عنها.
٤- انتقال عقدة الشكل إلى الأطفال: الأشخاص الذين يعانون من عقدة المظهر بالتأكيد سيكونون سببا أساسيا في انتقال هذه العقدة إلى أجيالهم القادمة، لكونهم سيربون أطفالهم وفقا للمعايير التي عاشوا عليها، وغالبا ما سيشعرون أطفالهم بأنهم أقل من غيرهم، وسيتعاملون مع أطفالهم كشكل وليس كروح وعقل.
٥-الوقوع في مصيدة التجسيم: غالبا ما يكون انقياد هذا النوع من النساء إلى مصيدة التجسيم أسهل من غيرها، لأنها لا ترى من نفسها إلا الجسد المثير، وتحاول كسب قبول الناس من خلال عرض نفسها في المجتمع بأكمل وأهم شيء تملكه (في نظرها) ألا وهو الجسد.
في النهاية يبقى موضوع التجسيم أمرا شائكا وذات تفرعات كثيرة وبالأخص فيما يتعلق بموضوع المرأة، ولأن الغرب دائما ما يحاول الترصد للمكون الأساسي في المجتمع ألا وهو المرأة فعلى أساسه ينفذ كل الخطط التي من الممكن أن توقع بالنساء، لأن هدم كيان المرأة يعني هدم المنظومة الأسرية وهدم المنظومة الأسرية يعني هدم المجتمع بالكامل، وانقياد المرأة إلى المظاهر وغض البصر عن توظيف العقول في ميدان العلم والعمل يمثل عين التخلف والرجعية، فكيف من الممكن أن تربي الأم التي لا ترى من نفسها إلاّ جسدا ماديا جيلا قويما وواعيا؟، بالتأكيد لا يمكن ذلك، وهذا ما يرنو إليه العدو منذ أزل السنين إلى يومنا هذا.
اضافةتعليق
التعليقات