في صباح اليوم حصل معي مالم كنت اتوقعه بحياتي، حيث كنت واقفة عند النافذة اُطعم عصفورتي، وارتشف فنجان قهوتي الساخن، بينما كنت اتغنى مع عصفورتي بالكلمات وتبادرني بزقزقة جميلة جدا، فيما يدور في رأسي بقايا الماضي وايام العز، ذاكرتي عنيدة معي، ترفض ان تمحي الذكريات فتجعلني ادور حولها، وتعرضها امام عيني بكل ما فيها من اوجاعها وافراحها، ايامها، وطفولتها المرهفة، الاهل والاصدقاء، كل هذه الذكريات تلاعب ذاكرتي العاجزة عن الهرب، لا احد يغيب عن مخيلتي، كلهم حاضرين، المكان والزمن والحدث، ثمة ذكرى عزيزة انا من احتفظ بها ولا اود ان احذفها مادام قلبي ينبض.
وهي ذكرى لامرأة كبيرة في العمر سمراء اللون، اعجمية اللسان، تجلس وسط الدار ومجدلة الشعر، نظيفة، انيقة المظهر، حنونة كحنان امي واكثر، تلف شعرها بعصبة سوداء، احنى الزمن ظهرها فأصبحت جميلة جدا بقصرها، الشيب غزى شعرها فما اجمل لون الشيب في شعر جدتي.
يديها الناعمة تشبه سنابل القمح، فغدت اصابعها تحلو وكأنها كتبت بها التسابيح، جدتي لا تعرف القراءة لكنها علمتني مالم تستطع ان تعلمني به المدارس، جدتي حكيمة في وقتها الطفل المريض تعرف وجعه وتسكن لوعه، الغريب يلجأ الى مرفأ الامان، الحزين يعرف من يمحي حزنه فيطرق الباب على جدتي.
لا تملك شيء لكنها اعطت وقدمت كل شيء، صبورة على النكبات، عظيمة في المواقف، تخفي دمعتها فتحكي الوسادة عن سيل دموعها ليلاً، وفي الصباح تتفقد الجيران وتطعم من تعرفهم، تجلسنا بقربها وتقص علينا قصص الماضي وتوصينا بوصايا القدماء..
اسمعوا يا احفادي: في القديم كان هناك مالم يكن هنا موجود، كان الناس يفتقدون بعضهم، يتراحمون بينهم، يا احفادي في السابق كنا نلعب ونرتع، لم يكن هناك انترنت، يشغل الاولاد عن الاهل واللعب، ننام مبكرا، ونستيقظ مع صوت الديك، كل ما يهمنا اننا نأكل ونذهب الى بيت (الملة) التي كانت تعلمنا قراءة القرآن، وقتها لم اتعلم عندها كثيرا يا احفادي بسبب لغتي، تعلمت منها سور القصار، وكلما اقرأها اهدي ثوابها الى الملة، اما انتم يا احفادي فكل شيء في وقتكم متوفر ولا تملكون شيء!.
تتنهد جدتي وهي تسرح شعري، لا انكر اننا كنا مشاغبين معها نأخذ نظارتها فتغضب علينا وتدور حولنا وهي تحاول ان تمسك بنا، لكنها تلاعبنا في الدوران، تسبق ابوينا في ارضائنا، وتستر على قبائح اعمالنا، لا ترى ولا تسمع، تخرجنا معها عند اسواق سيد عباس لتشتري لنا، لا تمانع مهما بلغ الثمن، وتكتفي بابتسامة منا.
مضت السنوات وكأنها كانت مؤقتة لنا، يحل الظلام وتغرب الذكريات مع غروب الشمس، جاء الظلام مسرعا، اختفت جدتي من عالمنا، ضاعت البسمة ورجعت لنا الدمعة، نشعر بان الايام كانت من الاحلام، وان فقد جدتي ضياع، يا ليتني ارتمي بحضنها واقول لها: كبرت جدا يا جدتي، احتاج الى نظرة منكِ، فانا متعبة وانتِ تعلمين اني لست مشاغبة، الدنيا هي من عاكستني، فعلت معي افعال لم تحكيها لنا، كنت تقولين ان غدا اجمل يا احفادي، غدا اصبح مخيفا وحزينا برائحة البارود في وطني.
اضافةتعليق
التعليقات