يحتفل العالم بـ"اليوم الدولي للأخوة الإنسانية" تطبيقاً للقرار الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع في ديسمبر الماضي، باعتبار يوم 4 فبراير من كل عام يوماً دوليًّا للأخوة الإنسانية.
إن هذه المناسبة الدولية المهمة كانت انطلاقاً من قناعة تامة بأن تعزيز قيم الأخوة الإنسانية والتسامح والتعايش بين الدول والشعوب هو مفتاح تحقيق السلام العالمي ومواجهة نزعات التطرف والعنف والإرهاب.
والتي تأتي في توقيت يشهد فيه العالم تنامياً في الأعمال التي تدعو إلى الكراهية الدينية وتؤدي إلى تقويض روح التسامح واحترام التنوع، لا سيما في وقت يواجه فيه العالم الأزمة غير المسبوقة الناجمة عن جائحة "كوفيد-19"، التي تتطلب اتخاذ تدابير عالمية تقوم على تعزيز قيم الوحدة والتضامن والتعاون متعدد الأطراف، وفق تعبير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس.
ومن ثم فإن هذه المناسبة الدولية تأتي لتعزز الوعي الدولي بأهمية بذل جهد أكبر لنشر قيم التعاون والتسامح والأخوة الإنسانية بين المجموعات البشرية والدينية المختلفة، وتأكيد أهمية نبذ خطابات الكراهية والتطرف التي تهدد حالة التعايش السلمي بين الشعوب والدول بكل صورها وأشكالها.
ومن المعروف أن الأيام الدولية بشكل عام هي مناسبات لتثقيف الناس حول العالم بشأن القضايا ذات الأهمية، وتعبئة الموارد والإرادة السياسية لمعالجة المشاكل العالمية والاحتفال بالإنجازات الإنسانية وتعزيزها، وبالتالي فإن هذه المناسبة الدولية، وما سيرافقها من فعاليات توعوية حول العالم كله، ستسهم بلا شك في تعزيز الوعي العالمي بقيمة الأخوة الإنسانية.
إن الاحتفال باليوم الدولي للأخوة الإنسانية هو تذكير لجميع الدول والشعوب بأهمية العمل على ترسيخ هذه القيمة السامية، باعتبارها الأساس لتحقيق الأمن والسلام والرخاء ومواجهة نزعات التطرف والكراهية في العالم كله.
والاحتفال بيوم الأخوّة الإنسانية لا يقتصر على يوم واحد، إنما يكفي أن يذكر البشر بعضهم ببعض بأنهم إخوة على هذا العالم الواسع بكيانه، والصغير بوجدانه، وهذا ما يدعو له إرثنا وديننا، فمعاملاتنا بالأخوّة الإنسانية تجاه بعضنا البعض، هي التي ستسود، إن أعلينا شأنها في كل اختلاف يمر بنا، وكل هذا تعززه تلك الممارسات الجديرة بالتعميم على مستوى العالم، وتجربة دولتنا بالتعايش السلمي بين شعبها ومقيميها وسياحها وزوارها، نموذج يحتذى به، وعلينا المحافظة عليه وتعزيزه بالممارسات الفردية والجماعية.
والمواطنة الحقيقية هي أن تتصرف بكل مسؤولية تجاه كل من يريد المساعدة، بأن تقدم له العون وإن كان معنوياً، أو توجيهياً، فالدولة تأخذ سمعتها من تصرفات الأفراد وسلوكياتهم.
والأخوة أنواع أعلاها الأخوة الإنسانية، لأن الإنسان أخ للإنسان، والله عز وجل خلق البشر من نفس واحدة، من خصائص واحدة، فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "لا يُؤمِنُ أحدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه".
هناك أخوة راقية جداً هي الأخوة الإنسانية، «لا يُؤمِنُ أحدُكُمْ ـ كأن هذا ارتبط بالإيمان ـ حتَّى يُحِبَّ لأخيه ـ في الإنسانية ـ ما يُحِبُّ لنفسه» ستظل الأُخوة هي الرابطة العالمية للإنسان، تجمع ما فرقته الديانة أو السياسة أو العنصرية البغيضة أو الطبقية الواهية، فالكل يعرف أنه أخ للإنسان من حيث الجنس والنوع والخاصة والكرامة والشعور بالحاجة لأخيه، والكل ينشد العدل والمساواة والكرامة والأمن والسعادة.
نعم هذا هو حالنا معاشر المسلمين أينما كنا وحيثما حللنا، بسبب أننا مسلمون مسالمون، ولكن سفهاء أفسدوا الأخوة وأشاعوا الذعر وأقلقوا السكينة العامة، ولما كان الإسلام صفة لهم، جعلوا الصفة نعتاً لكل مسلم، ونحن الطرف الأضعف في المعادلة، فلا بد من إعادة النظر في حالنا مع غيرنا، والسعي لإعادة اللحمة الإنسانية لوضعها الطبيعي الذي دعانا إليه الإسلام وسار عليه أسلافنا.
الإنسانية الإنسان
لا حدود لسماء إنسانية البشر الحقيقية، وعِظَمِ مقامها لدرجة صعوبة درك أعماقها الأخلاقية بسهولة ويُسر، بينما الوصول إلى قعر جمال مُحيطها الهادر يتطلب العمل الجاد المتواصل. الإنسانية أساس الوجود البشري ولكنها تتلاشى بأقل حركة غير محسوبة أو كلمة وتصرّف خطأ بأي لحظة وآنٍ. انحراف المرء عن المنهج الإنساني القويم بسُلوك سبيل التعصّب والتمييز والعنف هدرٌ لعلو مكانته المعنوية وتضييع لسمو هذا المقام المميز؛ فالشخص الذي يخدع ويكذب وينافق ويحقد ويغتاب ويسلك سبيل العنف والغدر والقتل بسبب أنانيته، أو حُبًّا للجاه والمال والسُّلطة يضر نفسه أولا بتخلّيه عما كُتب له من علو المقام والمكانة «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»، إنه خيار المرء ليكون بأحسن تقويم أم العكس.
الإنسانية جوهرة ثمينة تُميّز البشر عن سائر الكائنات بمجموعة من الخصال والصفات التي تُحلق بالمرء في سماء طيب الأخلاق وسمو الصفات حتى يصل إلى مرحلة الشعور بوجوب احترام الجميع وتقديرهم والتمنّي لأخيه بالإنسانية ما يحب لنفسه فيصبح انعكاسا لحقيقة "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
الإنسانية أساس جوهر الوجود البشري وذاته الروحانية، صفات ملكوتية يكتسبها المرء من خلال التربية الصحيحة بالصغر، تربيةٌ تُقوي استعداداته الروحية الكامنة بوجوده، تدعم قدراته الفطرية وإمكاناته الإنسانية، تُحرر الطفل من تصرفاته غير المرغوبة؛ كالأنانية والحسد والكذب وتكبح جماح غرائزه السلبية وتُساعده على تنمية استعداداته وقابلياته الإيجابية، تُقوي قدرة التحكّم بالغرائز البشرية وتمنحها زخما عظيما.
الإنسانية، كمعاملة وسلوك، هي ممارسة للوعي الروحي والمعنوي والتعامل بالحب والمساواة واحترام كرامة الناس، وفقا للمبادئ والحقوق الإنسانية والاستمتاع بلوحة التنوّع الثقافي والديني والوطني والجنسي التي خلقها الله من دون التَّمْييز بين البشر. تظهر السلوكيات الإنسانية بالتربية الصحيحة التي تُصقل إنسانية الإنسان لتُخرج جواهره للوجود، كما يُصقَل الكربون ليمنحنا حجر ألماس.
التربية تبني الأُسس الفكرية الصحيحة للمرء بانعكاساتها الأخلاقية المُؤثرة في تصرفاته اليومية، لتُساعده على التعامل الإنساني مع الجميع، تُسهم في تحقيق الانسجام النفسي والروحي مع الذات وتجاه الآخرين لتمنحنا بذلك فرصة ثمينة لبناء أسس ومُقوّمات وحدة العالم الإنساني وتأمين معيشة مُرفّهة وسعيدة وحياة آمنة.
احترام البشر أساس وجوهر التعايش معًا لتأمين العمل الإنساني المشترك وبناء قواعد العدل والمساواة بالعالم عبر دعم هذه الثورة الروحانية والأخلاقية. نتساءل: هل نمتلك الوقت لتربية أطفالنا، أم نترك هذه المهمة الحياتية للآخرين؟
عنوان الانسانية
نحن الآن نعيش بعالم نتحدث فيه عن العنصرية حين نَصِف الإنسان الأسمر ولا نتحدث عنها عندما نصف الأشقر، نتحدث بإسم الحرية عندما يتعلق الأمر بسجن الإنسان ولا نحتج على سجن الإنسانية وتقييدها بأغلال القوة المدمرة والحقد والكراهية المنتشرة ثم نقول أين الحرية؟ إن الحرية عنوان الإنسانية فكيف لنا أن نكون إنسانا حرا من دون إنسانية؟ لربما نحن الآن بعالم أصبحنا فيه أقوياء لكننا لسنا أحراراً! عالم نتبجح فيه بزمن الاختراعات والتطورات والتقدم ونتحدث عن الرقي والحضارة، في حين أننا لا نرى سوى تخريب أكثر من طرف الإنسان للإنسان نفسه، نتدخل بالأسلحة لنشر السلام فيه، ولا نتخذ السلام مبدئا ونقضي على الأسلحة المدمرة له.
لست أدري حجم الجشع الذي حكم سلوك الإنسان، وكيف سيطر على إنسانيتنا حتى تخطى جميع السلوكيات الهمجية والبربرية القديمة بوحشيتها وتخلفها، ففي سبيل الصعود على سلالم العيش برفاهية وبذخ أصبح الإنسان عدوا لأخيه، عميت بصره وفسدت بصيرته، لا أعلم سوى أنه في بقع كثيرة من هذا العالم الذي حكمه الخراب، سُفكت العديد من نقط الدم الحمراء من أجل بضع نقط نفط سوداء اللون بلون العنصرية المزعومة التي يندد بها العديد من أبواق اللاإنسانية، حيث ازداد يقيني أكثر أن هذا العالم يحكمه قانون الغاب، القوي يحكم والضعيف يسعى للعيش أكثر، والبقية تتناسل من أجل التكاثر فقط وضمان عدم الانقراض فئة العبيد التي تخدم من يرمي لها عظمة تلتهي بها وتكتفي بالعيش تحت ظل الذل والاستبداد.
ففي سبيل الاستمرارية بهذا العالم الكئيب، نسينا تماما أننا إنسان يحكمنا الحب قبل القوة، تجمعنا المودة، ويضمن استمرار التعايش والتسامح، لكننا لم نعد نرى للأسف سوى كائنات آدمية جعلت من الحب مجرد غريزة جنسية حيوانية يتكاثر بها الإنسان وتموت بها الإنسانية، ونحن نبحث عن التقدم، استحوذت على إنسانيتنا القوة وحب التملك، فقدنا البوصلة، وتغيرت سلوكياتنا تجاه أنفسها وتجاه الآخرين، فمن سيوقف إذن الإنسان من المساهمة في تفاقم الكارثة الإنسانية؟ هل الإنسان نفسه! هل من سبيل لاسترجاع القليل من الإنسانية بقلوبنا بعد أن دمرتها أيادينا وتورطت بجرمها ضمائرنا!.
إن ازدهار الإنسانية وتقدمها يتجلى في كيفية الحفاظ على أرواح البشرية من الموت والدمار، يكمن في صون كرامتها وضمان حريتها، والحرص على ضمان العيش لجميع أفرادها بسلام وتسامح وأمان. لنسقي إذن وردة إنسانيتنا ونزرع بذورها بأجسام صغارنا الخصبة، لنعلمهم أن قيمة الإنسان في مدى احترامه للغير، لعلنا نقترب من الإنسانية من جديد، فشوك الورد لا يؤذي الورد لكي ينمو، فكيف للإنسان أن يؤذي إنسانا من أجل تقدم حضارته! متى ابتعد الإنسان عن إنسانيته؟.
اضافةتعليق
التعليقات